الصادق الرزيقي يكتب : و رحل عبد الحكيم الطاهر

السودان

لن تعرف الراحل الكبير الفنان والمبدع الدرامي المغفور له بإذن الله الدكتور عبد الحكيم الطاهر محمد عثمان على سجيته وقيمته الحقيقية ، إلا إذا إقتربت من عالمه الواسع الفسيح المزركش المرقش الجميل ، فهو تجربة إبداعية سودانية خالصة ، تشبه لون ترابنا ، ونكهة قهوتنا ، ولون السباتة ، وترانيم الماساء ، و طلاوة حكايات الحبوبات واقاصيصهن ونداوة اغنياتنا ، وصرامة الاباء والاجداد و الوقار الجدية التي لا تفارق سماهم ، و هو روح إنسانية مترعة باللطف والظرف ، والعطف والسماحة و المروءة والنبل بما لا يمكن حتى تصديقه .. بها عاش ، و بخلاله تلك ترسخ كما الجبل في تربة الدراما والابداع وقاعات الدرس حتى إكتمل بدراً ثم كان غيابه و زماعه في ساعات الإصباح من أول يوم في العام الجديد ..

كان عبد الحكيم كما يعرفه الجميع ، عصامياً صميماً ، صعد سلم الحياة درجة.. درجة ، لم يقدمه أحد و لم يقنص فرصة أو اتته في غير موعدها كما لعبت الاقدار والظروف مع كثرين ، حفر بأظافره على صخر الحياة ، شق الطريق في وعورته الاول بوحله وطينه وناتئات احجاره التي ادمت قدمية ويديه ـ ارتوي إبداعه من دمه  وماء مآقيه ،وارتشف من روحه التي كابدت غلظة الحياة فما وهنت حتى آخر يوم له ، لذا كان نسيج وحده ، فقد ترك المدرسة الأولية يافعاً غض الإهاب  ، ليعمل في وظيفة عامل بسيط في مصنع النسيج في مطالع عقد الستينيات من القرن الماضي ، ليعول أسرته ويضطلع بواجب رعاية إخوته و لم يك يبلغ الرابعة عشر آنئذٍ ، ومع ذلك  واصل دراسته في الفصول المسائية الليلية يعمل نهاراً ويدرس ليلاً ، و تفيض نفسه بإبداع حقيقي لم تخطئه عين رائى .

تلمس الطريق الشاق بلا زاد و لا رفيق في أيامه الأولى ، لديه  فقط إبداعه و قدرته الفذة في تجسيد أية شخصية على المسرح امام زملائه المدرسة و أترابه في الحي ( الختمية بحري ) ، ثم التحق  دراما الاذاعة والتلفزيون والمسرح وهو في شرخ الصبا  ، إصطبر و جابه كل الظروف التي وقفت حجر عثرة امام كثير من المبدعين الذين تسربوا من عالم الابداع وتأبت عليهم مغاليق الابواب . لكن عبد الحكيم توهج منذ البداية في برامج الاطفال مع الفكي عبد الرحمن في الاذاعة ومنها انطلق  ، سطع نجمه و لم يأفل مع الآفلين ، تفتقت موهبته الفطرية الفذة على خشبات المسرح ف عقد السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ، تجلت عصاميته درس المرحلة المتوسطة و الثانوي ليلاً ثم قبل في المعهد العالي للموسيقي والمسرح ثم الدراسة بالقاهرة ونيل الماجستير و بعدها الدكتوراه وعمل استاذاً بكلية الموسيقي الدراما و قبلها استاذاً  مساعداً بمعهد الموسيقي والمسرح ، عندما يحكي لك تجربته كمساعد تدريس لا يغادر حتى يقهقه بضحكة عالية ويحكي لك قصة احد طلبته البروفيسور ابو القاسم قور حامد الذي رفض وهو طالب في ايامه الأولى بالسنة الأولى بالمعهد  أن يلبس الزي الرياضي (  Training suit) للتدريب على خشبة المسرح ورفع االياقة البدنية ضمن فروض المنهج الدراسي لمادة المسرح ، رد قور على استاذه عبد الحكيم بطريقته و لكنته البقارية وهو قادم من ديار المسيرية ( ما بلبس لبس العوين دا )  وتحول قور إلى دراسة اخري في النقد

في حياته التي وهبها لفنه وللعمل الدرامي والأكاديمي ، لم يكن عبد الحكيم غير نفسه ، ترك رصيد وافر من اشهر الاعمال الدرامية والمسرحية على خشبة المسرح والتلفزيون وهي من الاعمال الخالدة التي خلدته في تاريخ الدراما السودانية . و عاش للفئات التي احتاجته مثل الصم الذين كان من رواد المسرح الخاص به و انتقل بفرقته إلى مهرجانات خارجية في مصر و اسبانيا ودول اخري ونال أعلى الأوسمة والجوائز ، الذي جمعني به اننا قبل سنوات طورنا معه هو و الفنان الكبير الدكتور عبد القادر سالم رئيس اتحاد المهن الموسيقية ونقيب  الفنانين وانا بصفتي رئيساً للتحاد العام للصحفيين السودانين ، تعاوناً عبر برامجاً تكاملية لتوظيف الدراما والموسيقي والاعلام واستخدامها في معالجة قضايا المجتمعات الريفية و مناطق النزاعات ، و زرنا معاً ولايات دارفور و جنوب كردفان و كسلا والقضارف وشمال كردفان وغربها ، وخططنا لزيارة النيل الازرق وسنار ، ولن تزول من الذاكرة ابداً اننا ذهبنا إلى منطقة جبل مرة واقمنا احتفالاً فنياً لم يسبق ان اقيم مثله في ضاحية من روابي مدينة نيرتتي تحدر لها الاطفال من اطراف القري واعالي الجبال والنساء والرجال من كل صوب وحدب من اجل تعميق روح ومفهوم وثقفة السلام وحض المجتمع على نبذ القبلية ونزعة العرق ، غني عبد القادر سالم كأن لم يغني من قبل ، وقدم الراحل عبد الحكيم مسرحاً على الهواء تحلق حوله بعد ذلك الاقف الاطفال يقلدونه ويعابثونه ، وقال قائل من اهل المنطقة : ” هؤلاء الاطفال مذ ولدوا لم يسمعوا غير صوت الرصاص وازيز الطائرات والقصف ولم يسمعوا غير قصص القتل ..”

ونفس المشهد كان في كاس ونيالا والفاشر وشنقل طوباية والضعين والجنينة وكتم وام كدادة والدلنج و كادوقلي والفولة والابيض وبارا ، ثم قدم الفقيد دورات تدريبية عن دور المرح في صناعة السلام لمدة ثلاثة اسابيع في ولاية شمال وغرب دارفور ، وانتقل في دورة استمرت لاسابيع في ولاية كسلا قدم فيها عصارة علمه وخبرته ، كان محباً للبسطاء وسباقاً إلى الخيرات وخدمة الاخرين يزرع البسمة ويصنع الضحكة لدي الجميع ن لم نمع منه الادعاءات الكذوبة لبعض النجوم ولا الاستعلاء الاجوف ، كان متواضعاً و عالماً و ظل مملئاً بالضحك و الفرح كطفل غرير … ترك بصمة كمحو القمر لا تزول عن وجه السودان ابداً ووهو آخر جيل العظماء العالة من العصاميين وقد بدا غصن السودان الرضيب يذوي ويجف … فمثل عبد الحكيم تبكيه البوادي والقري والازقة والشوارع الضيقة و  بيوت الطين الفسيحة وكأن من العلياء يصفر بصفارة من قصب كما قال البروف عبد الله الطيب عن صلاح عبد الصبور في حوار صحفي في الستينيات من القرن الماضي اجراه معه د. سهيل ادريس  .

بغيابه وفقد ، خبا سراج و انطفأ قنديل من قناديل الابداع في بلادنا ، وصعدت إلى بارئها روح طيبة ملأت النفوس طيباً وسعداً ومرحاً و طمأنينة ، واليقين عندنا ان هذه الروح وصاحبها ليس لها مكان الا الجنات العلا ومقعد صدق  عند مليك مقتدر … رحمه الله رحمة واسعة .. ولا حول ولا قوة الا بالله  …

 

الصادق الرزيقي

Exit mobile version