آراء و مقالات

همس الحروف- صندوق الثقة و بصيرة الأعمى و فصاحة الأبكم- الباقر عبد القيوم علي

السودان

للمبصر و صاحب اللسان الطلق الحق في رفع تقريراً مفصلاً عن الحياة بذوق و إحساس عميق  ، و أيضاَ  يمكنه التعبير عنها بما يشاء  لأنه ينظر إليها بعينيه و يستطيع ان يرى جمالها  و تداخل ألوانها الزاهية و كما يقدر ان يعبر عن ذلك بالوصف  و الحديث عبر لسان فصيح و ذوق راقي و يعتبر ذلك تقييم منه للبيئة المحيطة به بكل زخم جمالها  , و كذلك هو الحال عند المكفوف الذي فقد بصره يستطيع أن يعبر عن ما جاد به المبصر بالرغم من الظلمة التي تنقلها له عينيه ,  ولكن ما لا يعرفه الناس فالمكفوف  كالمبصر تماماً في تذوقه للحياة بالرغم من أن الله قد حرمه من الإبصار و مشاهدة نعيمها عبر الروية البصرية ، و لكن نجده متذوق للحياة ربما بصورة أكثر و اعمق من المبصرين و ذلك عبر تذوقه للأشياء بحاسته السادسة التي تمثل البصيرة ، و كما يستطيع التعبير عنها بصورة أروع من المبصرين ، و من يظن أن الاعمى لا يرى فهو مخطئ ، و من يتوقع أن من ولد أعمى لا يستطيع تقييم الأمور  بنفس إحساس المبصر أو يزيد   من ذلك بإحساس يملأه الإبداع ، فقد ظلم هذه الشريحة ظلماً كبيراً و التأريخ يقف شاهداً على أن هنالك كثيرٌ من المكفوفين قد تركوا لنا أعمالاً أصبحت منارات يسترشد (بنورها) الناس بالرغم من أنهم لم يروا النور في حياتهم أبداً ,  وكذلك إنخفض التعويل على فصاحة اللسان كوسيلة للاقناع عبر التحدث  و الخطابة وذلك لأن العصر قد بدأ  يتحول إلى الصمت و اللجوء إلى قلة لغة الكلام ، و لقد تم إختصار ذلك برموز تشرح مقاصد الكلام بصورة أعمق من الحديث نفسه  و ذلك يعني أننا بدانا في التحول   إلى عصر أبكم ، تكثر فيه الخطابات والسجالات  الالكترونية التي تحمل الرمزية التي تنعدم  فيه المخاطبات المباشرة بإستخدام رموز بسيطة و معبرة بلغة فصيحة  وكما ان هذا العصر أصبح يعتمد على  (الفصاحة البكماء) ، لأنها أصبحت تحتل جانباً مهما في وصف مدلول الكلام.

 

بالرغم من إستطاعتنا على الإبصار ، لكن تنعدم عندنا الرؤية الثاقبة التي تمكننا من نخطي الحواجز و العقبات و لذلك نعيش هذه الأيام في حالة يمكن وصفها بأنها حالة عمى البصر و البصيرة السياسية و البكم النوعي الذي يتملك الفرد فيصعب معه  وصف مدلول التعبير الذين يمكن بواسطته شرح المعاني التي يمكن بها يتم لم الشمل و رأب المصدوع و وصف الإحساس العام لكل القضايا التي تمر بها بلادنا الآن ولهذا إزدادت عثراتنا و كثر تخبطنا في كل الأمور وذلك يرجع لإفتقار الحكومة و حاضنتها للرؤية الواضحة قبل دخول مزاج آخر و عناصر جديدة إلي هذه الحاضنة بعد توقيع إتفاقية السلام مع الحركات المسلحة.

 

في عام 2014 في بادرة مميزة و فريدة ، قام صاحب مخبز في حي من أحياء مكة المكرمة بالإستغناء عن جميع الوظائف الإدارية من مشرفين و محاسبين و عمال بيع  و قام بوضع صندوق أسماه صندوق الثقة ، وكتب عليه : إن كنت لا تملك النقود الكافية  التي تمكنك من شراء الخبز  فالخبز مجاني و كتب أيضاً  لافتة عند باب المحل : ثقتنا فيكم ليس لها حدود خذ ما تريد من الخبز وادفع ما تريد أن تدفعه من مبلغ . و هذه إشارة منه إلى حصافة و أمانة الزبون الذي سوف يقوم قطعاً بأخذ طلبه و وضع قيمة الخبز  في الصندوق الذي يعتبر المحاسب الوحيد بالمحل و لقد حقق هذا الصندوق  ارباحاً فوق تصور صاحب المحل.

 

الشعب السوداني في أمانته لا يقل عن شعب مكة ، فهو شعب معلم و حصيف و أمين و يمكنه بذات (صندوق الثقة) أن يدير هذه الدولة حال عجز الحكومة عن إدارتها ، و هذا ما كان الحال عليه بعد إسقاط حكومة الإنقاذ  إذ كان طوال هذه الفترة  و حتي فترة تشكيل الحكومة الإنتقالية نعيش حالةً من ثبوت الأسعار وتوفر الضروريات بصورة أفضل من الآن، فلم يرتفع فيها سعر خبز أو  وقود او دولار فكانت الدولة تدير نفسها بصندوق الثقة لم يكن هنالك وزراء أو ولاة، ولكن دولاب العمل لم يُخرق طيلة هذه المدة ولم تكن هنالك تجاوزات او إنفلات في الامن أو الاسعار … ولكن هذه الأيام  نعيش و بلادنا  في حالة من التوهان  اللا منطقي .. فهل تفضلتم بوضع صندوق الثقة و أتركو الباقي إلى هذا الشعب العظيم ليحكم نفسه بنفسه عبر  هذا الصندوق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *