“الجنائية” في الخرطوم… خيارات أمام الحكومة

السودان

الخرطوم: آدم محمد أحمد

يفتح وصول وفد المحكمة الجنائية الدولية بقيادة المدعية العامة الافريقية الأصل فاتو بنسودا إلى الخرطوم، الباب مجدداً في قضية محاكمة رموز النظام السابق وتسليمهم إلى لاهاي، ومع ان الملف الذي يقبع في اضابير المحكمة الدولية، بعد ان تلقته محوّلاً من قبل مجلس الأمن الدولي، ظل موجوداً ويتم التذكير به من حين إلى آخر في عهد حكومة البشير، إلا ان النظر إلى القضية في ظل حكومة الثورة بدأ مختلفاً، وهو ما يطرح العديد من الأسئلة حول مستقبل العلاقة بين (الجنائية والسودان)، وما هو مصير المطلوبين من رموز النظام السابق أبرزهم الرئيس السابق عمر البشير واحمد هاورن وعبد الرحيم محمد حسين وآخرون؟ وهل يمكن تسليمهم إلى المحاكمة في لاهاي مثلما يحاكم علي كوشيب الآن، ام يترك امرهم إلى القضاء السوداني او التفكير في مخرج ثالث؟

بالنسبة للحكومة الانتقالية، فإن الامر مازال محل جدل بين طرفيها (المكون العسكري والمدني)، وبينما أعلن العسكريون في الحكومة رفضهم تسليم البشير إلى الجنائية مثلما قال رئيس مجلس السيادة الفريق اول ركن عبد الفتاح البرهان في شهر (11) من عام 2019، عندما أكد في مقابلة مع قناة (الجزيرة) عدم تسليم البشير أو أي سوداني للمحكمة الجنائية الدولية، وقال إن الأمر ليس مطروحا الآن وإن الثقة متوفرة في القضاء السوداني والأجهزة العدلية، أعلن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في (23) اغسطس الماضي في خطابه بمناسبة الذكرى الأولى لتوليه السلطة، استعداد الحكومة الانتقالية في السودان للتعاون الكامل مع المحكمة الجنائية الدولية لتسليم عناصر نظام عمر البشير المتهمين، وسبق حمدوك اتفاقاً صدر عن الحكومة وحركات الكفاح المسلح بجوبا حول اهمية تسليم المتهمين إلى الجنائية، وقال محمد حسن التعايشي عضو المجلس السيادي في فبراير 2020م إن الحكومة توصلت إلى اتفاق مع الحركات يشتمل على (مثول الذين صدرت في حقهم أوامر القبض أمام المحكمة الجنائية الدولية)، إضافة إلى الاتفاق على إنشاء (محكمة خاصة بجرائم دارفور منوط بها تحقيق وإجراء محاكمات في القضايا بما في ذلك قضايا المحكمة الجنائية الدولية).

وبناءً على تلك المعطيات التي تشير إلى عدم الاتفاق المطلق بين طرفي الحكومة بشأن القضية، ستبدأ فاتو بنسودا لقاءاتها مع الحكومة والتي ستشمل كل الاطراف، في زيارة رسمية تستمر ثلاثة ايام وفقاً لبيان صادر عن مجلس الوزراء، الذي اشار إلى (ان فاتو ستناقش سُبُل التعاون بين المحكمة الجنائية الدولية والسودان بخصوص المتهمين الذين أصدرت المحكمة بحقهم أوامر قبض)، وهنا يقول الخبير القانوني كمال الجزولي إنه من حق الجنائية في تفاهمها مع الحكومة أنّ تقدّر أن من الافضل عقد محكمة مختلطة، في السودان او أنّ تعقد جلساتها هي نفسها في السودان، بعد ان تتعهد حكومة السودان بتوفير الحماية والامن اللازمين، وأضاف الجزولي قائلاً: (من حقها أنّ تصر ــ لاسباب تقدّرها ــ على عقد جلساتها في لاهاي، وفي هذه الحالة يتم تسليم المتهمين اليها)، وقال كمال في حديث لـ (النورس نيوز ): (أعتقد هذا ما سيدور حوله النقاش بين وفد الجنائية الزائر والحكومة)، وزاد قائلاً: (اما اي تفكير لترك المتهمين دون تقديمهم الى الجنائية هذا مستبعد تماماً، لأن هناك قضايا اتهامات مرفوعة لمكتب المدعي العام، وقرارات صدرت عن المحكمة ما قبل المحاكمة، وكلها خاضعة للتنفيذ، ولم تقم حكومة السودان باستئناف هذه القرارات).
وفي السابق كانت هناك مبررات تحول دون تسليم المتهمين، أبرزها بالطبع رفض حكومة البشير هذا الأمر جملةً وتفصيلاً، والقضية معلومة في ذلك، ولم تعد ايضاً محاكمتهم في القضاء السوداني ممكنة في ظل وجود المتهمين في سدة الحكم، وهو ما اشارت اليه المحكمة نفسها في ان القضاء السوداني غير قادر وغير راغب، ولكن ان كانت وقتها توجد مبررات بتسليم المطلوبين إلى الجنائية، فإن الامر اختلف الآن مثلما أشرنا. وهو ما اكده هاشم ابو بكر الجعلي محامي الدفاع عن المتهمين من رموز النظام السابق، بقوله لـ (الانتباهة): (إننا في هيئة الدفاع نعتقد انه لا توجد اية اسباب لتسليم المتهمين إلى الجنائية الآن بعد ان تم تغيير النظام السابق، والآن انتفت ذريعة ان المتهمين لديهم السلطة ولن يسمحوا بتنفيذ القانون، والدليل ان القضاء السوداني يجري محاكمة البشير ورموز النظام تحت قضايا مختلفة)، واشار الجعلي إلى ان اختصاص المحكمة الجنائية تكميلي وليس اصيلاً، وأضاف قائلاً: (كانوا يقولون ان القضاء السوداني غير قادر وغير راغب، ولكن هذا ليس موجوداً الآن، لأنه لا يوجد شيء تؤسس عليه زعم عدم الرغبة، خاصة ان النظام القضائي الوطني لم يدع عدم القدرة، لأنه يحاكم الرئيس بموجب قضايا مختلفة، اذن الرغبة موجودة والقدرة موجودة).

وربما قد تتفق الحكومة مع وفد الجنائية على محكمة هجين او مختلطة تفادياً لحرج التسليم، من واقع ان أطرافاً كثيرة ترى في التسليم انتقاصاً للقضاء السوداني، وهو طرح اعلن عنه الاتحاد الافريقي سابقاً ووجد الدعم من شخصيات سودانية بارزة أولهم الصادق المهدي الذي تبنى الفكرة، الا ان هاشم الجعلي يرى انه وفقاً للواقع الموجود فلا مجال لتدخل المحكمة الجنائية مطلقاً، بينما يقول كمال الجزولي إن عدم قدرة القضاء السوداني امس واليوم على محاكمة الجرائم التي اركتبت في دارفور في 2003م وفي 2004م مازالت مستمرة، والسبب في ذلك ان عناصر القانون الجنائي الدولي لم تكن متضمنة في القانون الجنائي لسنة 91م، ومعلوم ان القاعدة لا جريمة ولا عقوبة الا بنص، وأضاف قائلاً: (لذلك مهما تكن تلك الجرائم خطيرة، ليس في قدرة القضاء السوداني ان يحاكمها طالما انها لم تكن منصوصاً عليها)، واشار الجزولي إلى ان عناصر القانون الجنائي الدولي دخلت في القانون السوداني لاول مرة عام 2009م.

وربما ان مسألة محاكمة رموز النظام السابق ارتبطت بقضايا اخرى ذات صلة بعلاقة السودان الخارجية، سيما قضية الاندماج في المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الامريكية، وبالتالي فإن تسليم المطلوبين قد يتم من هذا الباب، بغض النظر عن قدرة القضاء السوداني أو عدم قدرته على المحاكمة، إضافة إلى ان المسألة ارتبطت بالرأى العام السوداني، وهنا يقول الجعلي إن هيئة الدفاع لمست استعداداً سياسياً معلناً من حمدوك وبعض القيادات الذين اعلنوا استعدادهم للتعاون مع الجنائية، وأضاف قائلاً: (العسكريون اعلنوا رفضهم تسليم أي سوداني لتتم محاكمته في لاهاي، ولكن هذا الموقف لا نعتقد انه استراتيجي ويمكن ان يخضع لتقلبات سياسية). وزاد الجعلي قائلاً: (لدينا مخاوف حقيقة من أن يتم الأمر، ليس لأن القضاء غير قادر، لكن النيابة عجزت عن وجود أية اسباب تحاكم بها المتهمين من رموز النظام السابق، لذلك اللجوء إلى الجنائية فيه مخرج سياسي للقائمين، وهو يمثل قراراً سياسياً بحتاً).

 

Exit mobile version