للعطر افتضاح- الويل لقاضي الأرض من قاضي السماء- د. مزمل أبو القاسم

السودان

 

لم يفاجئنا التصريح الصادر من أيقونة شباب ثورة ديسمبر المجيدة، الدكتور محمد ناجي الأصم، عندما طالب باطلاق سراح المُعتقل مُعمَّر موسى، (وكل معتقلٍ بصورةٍ تعسفيةٍ وبإجراءاتٍ غير قانونية)، مُحمِّلاً النائب العام مسئولية توضيح أسباب اعتقاله، والإجراءات المتخذة ضده، أو إطلاق سراحه.

أشهد الله صادقاً غير حانثٍ أنني لا أعرف معمَّراً في شخصه، ولم يسبق لي أن التقيت به مطلقاً، ولم أنتمِ في أي يومٍ من الأيام إلى التنظيم الذي يحظى بعضويته، بل إنني سعدت بسقوطه، ودعمت هبَّة الشباب التي استهدفت قبَره، توهماً مني بأن نجاح الثورة سيعني تحول شعارها الأول (حرية سلام وعدالة) إلى واقعٍ معاش، ليسود العدل محل الحَيف في بلادنا، وترفرف عصافير السلام، وتعود العدالة الغائبة.

هتفوا (سلمية سلمية.. ضد الحرامية)، ورسموا لنا في ميدان الاعتصام أبهى صور التآخي والتآزر والمحبة والتسامح، فنشروا الأمل في نفوسنا، وبثوا التفاؤل في صدور كل أهل السودان.

دارت دورة الأيام كما يقول شاعرنا الفذ سيف الدين الدسوقي، فإذا بحكامنا الجدد يتنكَّرون لكل شعارات الثورة، ويقبرون كل مبادئ العدالة بتعطيلهم للمحكمة الدستورية، بعدم تسمية قضاةٍ مكان المنتهية ولايتهم، كي تخرج المحكمة (الأعلى) عن نطاق الخدمة، ولا تنظر أي طعنٍ في دستورية أي تشريعٍ جديد.

امتدت يد الغي إلى الوثيقة الدستورية نفسها، فتم التعدي عليها مراراً، وقُدَّت من قُبلٍ ومن دُبرٍ بتعمد عدم تكوين المجلس التشريعي، كي ينال الطغاة الجُدد حرية تعديل القوانين وتشريعها على هواهم، وقد تابعنا ما حواه قانون تفكيك نظام الإنقاذ من بِدعٍ وعجائب وغرائب وأهوال، تتعارض مع أبسط مبادئ العدالة والتشريع، وتشيع الإنصاف إلى مثواه الأخير.

أطلق القانون يد لجنةٍ سياسيةٍ يرأسها ضابط وينوب عنه صحافي، لتصادر سلطات القضاء، وتأخذ الناس بالشبهات، وتنتزع ممتلكاتهم، وتجمد حساباتهم، وتصادر أموالهم، وتُشهِّر بهم في الفضائيات وبقية وسائل الإعلام، وتحرمهم من حقهم الدستوري في المحاكمة العادلة، ومن حقهم القانوني في السماع، ومن حقهم الطبيعي في الدفاع عن النفس.

المُجرم القاتل الذي يُضبط مُتلبساً بجُرمه المشهود، ويُقبَض عليه وسكينه تقطر دماً، ويُقرُّ بفعلته، ويشهد على نفسه بتدوين اعترافٍ قضائي، يظل اسمه متهماً عند المحكمة، وتتاح له فرصةٌ كاملةٌ للدفاع عن النفس، بل إن المحكمة تبادر بتعيين محامٍ يترافع عنه إذا فشل في الاستعانة به، ولا تتم معاقبته إلا بعد الإدانة، وبعد أن يستوفي كل مراحل الاستئناف.

أما عند لجنة تفكيك التمكين فيعُد المتهم مذنباً حتى تثبت براءته، علماً أن نيل البراءة يمثل عين المستحيل، حتى اللحظة على أقل تقدير، لأن الاستئنافات لا تُنظر، كي يتمكن مقدموها من اللجوء إلى القضاء بعدها.

الاعتقال في عهد حكومة الثورة يستمر لآجالٍ مفتوحة، لا يتم فيها إطلاق سراح المتهمين بالضمان، ولا تتم إحالتهم إلى المحاكم، برغم أنف قانون الإجراءات الجنائية، كما إن تشريد آلاف الموظفين من أعمالهم يتم بلا محاسبة، ومن دون أن ينالوا أدنى فرصة لإثبات أحقيتهم بمناصبهم، أو نفي تهمة أخذ الوظيفة بالتمكين عنهم.

الطبيعي أن تجمع اللجنة أدلتها ووثائقها ومستنداتها وتذهب بها إلى القضاء، كي تخاصم بها الفاسدين والمعتدين على المال العام، ومن ولجوا سُوح الخدمة العامة عبر بوابة التمكين الإنقاذي، ولكن.. هل سلِم القضاء نفسه من سيف اللجنة الحاد الصقيل؟

شاهدنا كيف تمت إحالة أكثر من مائة وخمسين قاضياً إلى الصالح العام (الجديد)، وكيف صمتت رئيسة القضاء على تلك المذبحة المُروِّعة، من دون أن تستنكرها ولو باللسان وذلك أضعف الإيمان، أو تنتقد التعدي على قانون السلطة القضائية، لتخلي مسئوليتها عنها للتاريخ، وتؤكد جدارتها بالمنصب المرموق، كأول امرأة في تاريخ السودان والمنطقة بأسرها تتولى رئاسة القضاء.

امتدت أيادي التشريد إلى النيابة ووزارة العدل والخارجية وغالب مؤسسات الدولة لتشرِّد أصحاب الكفاءات وتأخذهم بالشبهات، وصمت دعاة العدالة عن ذلك الواقع المؤلم، وابتلع مناضلو الأمس ألسنتهم السليطة، ونسوا كل جعجعتهم ومطالباتهم السابقة بتشييد أركان دولة القانون، وبسط العدل، ومنع الظلم.. لن يغفر لهم التاريخ صمتهم المهين.

لذلك كله احتفينا بتصريح الأسد الأصم، لأنه أرضى ضميره، وصالح ذاته، وأبرَّ المبادئ التي خرج من أجلها ثائراً على ظلم الإنقاذ، حتى ولج معتقلاتها الكئيبة غير وجلٍ ولا هيَّاب.

يقولون في المثل الظُلم قرين الكُفر.

ويقول المولى عزَّ وكل في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرَّمت الظُلم على نفسي، وجعلته بينكم مُحرَّماً فلا تَظالموا)، وقال سبحانه جلَّ وعلا في سورة ق: (وما أنا بِظلَّامٍ للعبيد)، وقال في سورة غافر: (وما الله يريد ظلماً للعباد).

صدق الله العظيم.. الويل لقضاة الأرض من قاضي السماء.

التحية للأسد الهصور محمد ناجي الأصم (خريج مدرسة الحرية نارٌ ونور) على تصريحه الناصع الشجاع، والتحية من بعده لكل من تمسك بمبادئه، وجهر بالحق، ورفض الظلم في عهد ثورة العدالة والحرية.

نختم مقالنا بقول الشاعر: (فلا تعجل على أحدٍ بظلم.. فإِن الظلمَ مَرتعُه وخيمٌ).. استقيموا وأعدلوا هو أقرب للتقوى، واستفيقوا قبل أن يرتد ظلمكم عليكم.. ولات ساعة مندم.

Exit mobile version