الأخبار الرئيسيةتقارير

تاور في «نهر النيل والشمالية» .. مشاهد ومواقف

رصدها:صديق رمضان

في صباح خريفي معتدل الأجواء تركنا العاصمة الخرطوم يوم الاثنين، وقد لفها الظلام والصمت ويممنا صوب شمال السودان الذي كان له من فيضان النيل نصيب، أسوة بالمدينة المليونية التي ترك بصمته عليها، حتى يصل عتبات القصر الجمهوري، وكأنما أراد وضع رسالة علي بريد من يجلس بداخله مفادها أن الغرق يحدق بالثورة وان السيل قد بلغي الزبي فاحذروا منه.

كنا رفقة عضو المجلس السيادي بروفيسور صديق تاور في ذلك الصباح الهادي، فقد قرر رؤية الواقع مجرداً بنهر النيل والشمالية بعيداً عن التقارير المكتبية.

كان يريد الوقوف علي أضرار فيضان النيل ميدانياً بالمدن والقري المتأثرة، وكان وفده رشيقاً ضم إلى جانبه القيادي بالحرية والتغيير والموسوعة المعرفية المتحركة بروفيسور جعفر الصافي، والي جانبه العلامة بروفيسور الباشا القيادي بقحت وبجانبهما الشاب النشط أبوبكر أبوحراز أحد معاوني تاور .

ووفدنا يتوجه شمالاً دون أن تسبقه سيارة شرطة أو حراسة أمنية كما كان سائدا في عهد الانقاذ، توقف عقب خروجنا من الجيلي في منطقة صغيرة يوجد به سوق يقع قبالة الطريق الرابط بين العاصمة وعطبرة او شارع التحدي كما يطلق عليه.

ترجل عالم الفيزياء بروفيسور تاور عن السيارة ومن معه وتوجهنا ناحية بائعة شاي، كان الرجل محط أنظار من في السوق في ذلك الوقت الباكر من الصباح.

قضي الوفد ربع ساعة داخل الراكوبة مع كادحة امرأة خمسينية كانت في غاية السعادة لان الصباح حمل لها رزقاً جيداً، وحينما عرفت حقيقة الوفد ولفرط كرمها رفضت أخذ مال المشروبات الساخنة التي قدمتها، غير أن أريحيتها قوبلت بالرفض ليس لشيء غير أنها كانت تستحق أكثر من مبلغها المستحق، وبالفعل هذا ما فعله عدد من أعضاء الوفد وكل واحد منهم يدس في يدها مبلغاً من المال فلم تجد غير الدعاء للجميع بسلامة والوصول والعودة، دعوات شعرنا بها نابعة من دواخل امرأة تفيض نقاءً .

حجر العسل والدفء

كنت اعتقد أن منطقة حجر العسل أو الأحجار الكريمة كما كان يطلق عليها في عهد النظام البائد، ستقابل عضو الوفد السيادي بروفيسور تاور ببرود وربما صدود من واقع تصنيفها حاضنة للحركة الإسلامية، وكنت اعتقد أيضاً أنها مكتملة الخدمات، وأهلها في رغد ودعة، غير أن الحقيقة علي أرض الواقع جاءت خلافاً لتوقعاتي، فالاستقبال كان حاراً وحميمياً وموغلاً في الكرم الذي اشتهر به أهل هذه المنطقة، فقد انزلوا البروف منزلته، وكانوا سعداء بزيارته، وتداعوا إليه في قرى حجر العسل ومنها (البسابير والعمدا .. وغيرها) دون أن يتم حشدهم وبدأ هذا الأمر جلياً في اختفاء مظاهر الاحتفالات الإنقاذية.. كل شيء كان علي طبيعته، الهتافات، الكلمات، والتفاعل.

كانت الثورة حاضرة في أنفس المواطنين الذين شكوا للبروف بغبن وأسى التهميش الذي ظلوا يرزحون تحت وطأته طوال العقود الماضية، وبدأ هذا واقعاً جلياً تجسد أمامنا وقد أوضحته المنازل البائسة والخدمات المتردية والوجوه الشاحبة والحزينة.

كل شيء كان يؤكد أن القرى جنوب شندي تعرضت للظلم وهذا جعل البروفيسور متأثراً وهو يخاطب المواطنين في كل القرى التي زارها. لم يخاطب مشاعرهم ويدغدغها بالوعود السراب ومعسول الكلام بل بتأكيده علي الظلم الذي حاق بهم وضرورة أن يعمل مع زملاءه في السيادي ومجلس الوزراء علي رفعه من كاهلهم.

والتردي الذي تشكو منه معظم مناطق نهر النيل يعد دليلاً دامغاً على أن الإنقاذ فقط جعلت من قادتها أثرياء، أما أهلهم فقد حصدوا الهشيم وتجرعوا العلقم.

حضور المرأة

في كل المناطق التي تجول عليها بروفيسور تاور كان حضور النساء والفتيات لافتاً وفاعلاً، وهذا يؤكد أن المرأة في هذا الجزء المحافظ من البلاد بدأت تحتل مكانتها في المقدمة بوصفها قائدة للمجتمع.

وبخلاف تنامي الوعي فان تولي الدكتورة آمنة المكي لإدارة الولاية كان له أثر ايجابي في تعزيز ثقة المرأة في نهر النيل بنفسها، فقد باتت ملهمة لهن بقوة شخصيتها، وتبدىّ ذلك جلياً في اندفاع النساء لإلقاء التحايا عليها والتقاط صور معها.

وكان ابلغ تعليق من امرأة ستينية وهي تخاطب الفتيات في قرية العقدة وتقول لهن: “شوفن التعليم بعمل شنو وبخلي المرا كيف” في كناية علي ضرورة حرصهن علي التعليم .

يوم شاق

تواصلت جولة الوفد وشملت المتمة وشندي وهناك كانت لجان المقاومة حضوراً أنيقاً وهي تتصدي لتمرد النيل وشبابها يبذلون كل مافي وسعهم للسيطرة عليه حتى لا يفيض ويغرق دار جعل.

اهتبل شباب المقاومة والمواطنين زيارة عضو السيادي واخرجوا هواء ساخن من صدورهم، ظلَّ يعتمل وقتاً ليس بالقصير، فقد أكدوا أن الإنقاذ ما تزال تمسك بتلابيب الحكم وتفرض سيطرتها التامة، وطالبوا بتسريع إيقاع عمل لجنة التفكيك.

بعد ذلك توجه الوفد صوب الدامر عقب مغيب الشمس، وكنا نعتقد بان البروف سيخضع للراحة بعد يوم شاق بدأ عند الثالثة صباحاً غير أنه رفض التوجه لغرفته بفندق القراند، وعقد اجتماعاً مطولاً مع مركزية الحرية والتغيير ولجان المقاومة بالولاية حتى العاشرة مساءً، لينتهي بذلك اليوم الأول الذي كان شاقا بكل ما تحمل الكلمة من معان .

تتواصل الجولة

في صباح الثلاثاء وعند الساعة السابعة التقي بروفيسور تاور لجنة طوارئ الخريف، ثم توجه نحو قرية ام رهو التي حولها فيضان نهر عطبرة إلى أثر بعد عين.. كان أهلها ورغم الجرح الغائر في أنفسهم بداعي فقدانهم ممتلكاتهم وهجرهم ديار أجدادهم، سعداء بزيارته. ومثل سائر معظم قرى نهر النيل أكدوا أنها الأولى لمسؤول رفيع المستوى، وأصدر وهو بينهم عدد من القرارات لتخفيف المعاناة عنهم بعد أن وجدهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.

بعد ذلك توجه نحو قيادة المدفعية فتم استقباله رسمياً، ويبدو أنه اختار تجسير الهوة بين القادة العسكريين والوالي الدكتورة آمنة بعد أن جرت مياه تحت جسر العلاقة بينها والعسكر، فقد عقد اجتماعاً ثلاثياً صب في قناة توحيد جهود شركاء الحكم وبحكمته المعهودة نجح تاور في تقريب وجهات النظر وتبديد الخلاف.

وكان مصنع اسمنت عطبرة الوجه الأخيرة في زيارة البروف تاور إلى ولاية نهر النيل وهناك تقاسم مع الوفد الدهشة والمدير العراقي الجنسية يتحدث عن أن 50% من عائد المصنع يذهب إلى أعمال الخير، والنصف الأخر للتشغيل، وهذا يعني أن صاحبه الشيخ سليمان الراجحي اختار طريق لا يخسر من سلكه وهو التجارة مع الله، وليت رجال الأعمال السودانيين يقفوا علي هذه التجربة الغارقة في الإنسانية والرحمة ليتعلموا منها بدلاً عن نهجهم المرتكز علي تحقيق الثراء علي حساب البسطاء والفقراء.

جهد خرافي

والنهار قد انتصف توجهنا صوب الولاية الشمالية، وفي منتصف الطريق وقد أخذ مني التعب مبلغاً عظيماً -المحرر- سألت الموظف بمكتب تاور الشاب أبوبكر أبوحراز عن سبب زيارة عضو السيادي البروف تاور للولايات عبر البر، فقال إنه يرفض رفضاً باتاً أن يتجول عبر الطائرات ويختار دائماً السفر عبر البر رغم مشقته للتعرف عن كثب علي واقع المواطنين. اكتفيت بالصمت لان في هذا تأكيد علي أنه رجل دولة يريد تلمس قضايا الناس والالتقاء بهم.

بعد ثلاث ساعات وسط الصحراء وصلنا إلى مدينة مروي ومنها مباشرة إلى تنقاسي العريقة التي فعل النيل فعلته في بساتينها الوريفة، محولاً اخضرارها إلى قفر ويباب بعد أن طمرها بمياهه، واغرق معها أحلام المنتجين الذين خرجوا من هذا الموسم بخفي حنين.

ورغم فداحة ما تعرضوا إليه إلا أن الصمود بدأ واضحاً من كلماتهم، كيف لا وأهل هذه المنطقة أصحاب إرث في القناعة ومواجهة نائبات الدهر.

كانوا في غاية السعادة بزيارة البروف تاور الذي بادلهم ذات المشاعر، بعدها توجه الوفد ناحية قرية مقاشي التاريخ والعراقة التي خرج من رحمها الراحل المقيم الفنان عثمان حسين.

كان تاور متأثراً وهو يتحدث إلى أهلها وهو يستدعي ذكريات فترة الشباب حينما كان طالباً بمصر وقد زامله احد أبناء مقاشي وهو زميلنا الإعلامي الراحل حسن البطري. كانت لحظات رغم أنها حاشدة بالعواطف إلا أنها جميلة فقد اظهر أهل مقاشي تقديرا كبيرا للبروف تاور الذي قال انه يعتبر نفسه احد أبناء مقاشي وكان لحديثه الصادق  وقعاً طيباً في نفوسهم.

أكثر من زيارة

قضي الوفد ليلته بمروي، وفي اليوم التالي توجه نحو دنقلا وفي اجتماع مجلس الوزراء أنصف البروف تاور أهل الشمال حينما أكد على معاناتهم من التهميش، وطالب بعدم محاسبتهم بما فعله أبنائهم من قادة النظام البائد.

وبعد ذلك زار الغابة، بوشاري، وغيرها من قرى، ووقف على مدي معاناة المواطنين، ليس مع الفيضانات وحسب، بل مع تردي الخدمات وبؤس الحال الذي دفع معظم أهل الشمال لهجرة ديار أجدادهم بحثاً عن مدن أخرى داخل وخارج البلاد، تتوفر فيه ابسط مقومات الحياة الكريمة، ليختتم جولته والشمس قد لاحت بالوداع بقرية الكلد التي لم يطلب أهلها شيء غير أن يتناول الوفد وجبة الغداء معهم فأحسنوا إكرامهم، وسط أجواء من الحميمية السودانية التي تميز هذا الشعب العظيم.

دروس وعبر

بعد جولة استمرت 72 ساعة وصلنا العاصمة عند الحادية عشر مساءاً بعد أن استغرقت الرحلة 1600 كيلو متر، زار خلالها الوفد 15 قرية ومدينة، وعقد سبعة اجتماعات.

وقد كشفت الزيارة أن الثورة ما تزال تعتمل في صدور أهل الشمال وأن جذوتها متقدة.

ودقت الزيارة ناقوس الخطر بان الشمال وفي ظل تردي الخدمات وانعدام مشاريع التنمية يزداد نزيف الهجرة فيه بوتيرة مخيفة.

كما أن جولة بروفيسور تاور أكدت علي ضرورة أن يبارح أعضاء السيادي ومجلس الوزراء مكاتبهم الفخمة بالعاصمة ليزوروا الولايات التي تبكي في صمت، وتتألم من استمرار سيطرة فلول النظام البائد عليها، كما أنها تعاني كثيراً في توفير الخبز والوقود وتشكو من الغلاء.

واعتقد أن بروفيسور تاور وبجولته علي نهر النيل والشمالية أكد علي أن المسؤول الحقيقي هو من يصل إلى المواطن في مكانه وليس العكس.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *