آراء و مقالات

التطبيع مع إسرائيل ثورة مضادة – عثمان جلال

(1)

حسم رئيس الوزراء السوداني الدكتور حمدوك جدلية العلاقة مع إسرائيل بعبارات غاية في الحنكة والجسارة الوطنية وجوهرها أن الحكومة السودانية الانتقالية غير مفوضة في البت في مسألة التطبيع مع إسرائيل لأن أثارت هذه القضية المعقدة ستؤدي إلى انشقاقات عمودية في المجتمع، ومهام الحكومات الانتقالية تعزيز وحدة وتماسك المجتمع، والنأي عن اثارة القضايا الدينية والهوياتية، والحاكمية، فهذه قضايا اصولية من اختصاص حكومة منتخبة وبرلمان شرعي.
(2)
ان تحريك ملف التطبيع العربي، الإسرائيلي في هذه اللحظة التاريخية من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هدفه إنقاذ موقفه الانتخابي بعد إخفاقاته الاقتصادية، وفشله في إدارة ملف جائحة كورونا مما أدى إلى تسريح الملايين من العاملين في القطاع العام والخاص وارتفاع معدلات البطالة في أمريكا، وكذلك فان نزعات ترامب الشوفونية أدت إلى شرخ عميق في نسيج المجتمع الأمريكي الهش مما افقده الأقليات الأفريقانية، واللاتنية والاسيوية، ولكن حتما سيصطف إلى جانبه اللوبي الصهيوني العميق في مؤسسات الدولة الأمريكية كما ذكر (ستيفن والت، وميرشايمر) في كتاب تأثير اللوبي الصهيوني في السياسة الخارجية الأمريكية.
(3)
يعرف علماء العلاقات الدولية السياسة الخارجية بأنها تعبير عن مصالح الدولة الداخلية، وان كان ذلك كذلك فإن دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ملف التطبيع مع الدول العربية هدفه الاستراتيجي استمرار ميزان القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية مختلا لصالح إسرائيل، لذلك رفضت إسرائيل تمليك أمريكا لدولة الإمارات العربية طائرات (If 35) الاستراتيجية، وإسرائيل تستمد وهج قوتها من أنها دولة ديمقراطية في محيط دول عربية استبدادية، وأنها جزء من معادلة الأمن القومي الأمريكي في المنطقة.
(4)
ان التطبيع الإسرائيلي مع الدول العربية يصب في تحقيق برنامج حزب الليكود الانتخابي والمتمثل في منع التغلغل الإيراني في سوريا، وعدم امتلاك النظام السوري لأسلحة استراتيجية، ومنع تهريب السلاح من سوريا لحزب الله اللبناني، وضم أراضي من الضفة الغربية وغور الأردن لإسرائيل، وتحقق هذا البرنامج من موجبات الأمن القومي الإسرائيلي، والضامن لاستمرار بنيامين نتنياهو في الحكم، ولذلك عندما صرحت القيادة الإماراتية بأن التطبيع مع إسرائيل سيوقف (استراتيجية الضم)، انبرى نتنياهو مستدركا وثبت رؤية إسرائيل للتطبيع مع الدول العربية (السلام مقابل السلام، السلام من منطلق القوة)، وهكذا تكون الحكومات والقيادات التي تستمد شرعيتها من شعوبها.
(5)
ان استراتيجية التطبيع العربي، الإسرائيلي يطمح من وراءها بنيامين نتنياهو والذي تحاصره الأزمات الاقتصادية والسياسية الداخلية وتلاحقه شبهات الفساد والتي قد تحيله إلى المحاكمة، ولكنه بالمقابل حقق إختراقات استراتيجية في دورات حكمه الممتدة لخمسة عشرة عاما منها اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل وتبعية هضبة الجولان السورية لها، وتطبيع علاقات إسرائيل مع بعض الدول الأفريقية، والاختراق الاستراتيجي إقناعه للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بصفقة القرن للسلام مع السلطة الفلسطينية، والتي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية بإقامة دويلة فلسطينية مسلوبة الإرادة والسيادة، ثم إدماج إسرائيل في المنطقة العربية والشرق اوسطية بعد التطبيع الكامل لعلاقاتها مع الدول العربية،وعزل إيران باعتبارها العدو الاستراتيجي الجديد في المنطقة، وقيادة تحالف عربي، إسرائيلي أمريكي لتدمير البرنامج النووي الايراني، ويطمح نتنياهو في حال تحقق هذا الإنجاز الاستراتيحي إلى تدوين اسمه مع الآباء المؤسسين للدولة العبرية أمثال (هرتزل، وحايم وايزمان، ديفيد بن غوريون)
(6)
ان الخطر الكامن في جدلية التطبيع العربي الإسرائيلي انه موجه ضد إرادة قوامة الشعوب العربية في الحكم، وتحقق ذاتها بإقامة النموذج الديمقراطي الأمثل في الدول العربية، فالدولة الإسرائيلية تمت زراعتها في المنطقة العربية عام 1948م في ظل صعود موجة الايديولوجيات القومية العربية، والناصرية، والاشتراكية، والشيوعية والملكيات الاقطاعية،حيث تنامت هذه الأيديولوجيات بعد نجاح الشعوب العربية في إنجاز ثورة التحرر الوطني من الاستعمار، وقبل أن تبدأ الشعوب العربية الثورة الثانية والمتمثلة في التنوير والبناء الوطني الديمقراطي المستدام ، اوقفت هذه الثورة الديمقراطية أنظمة استبدادية قمعية رفعت على مستوى السياسة الداخلية شعارات الوحدة والنهضة الاقتصادية، ورفعت على مستوى السياسة الخارجية شعارات التحرر من الهيمنة الإمبريالية، وتحرير فلسطين ولكنها تجرعت الهزيمة تلو الهزيمة في حروباتها مع اسرائيل (1948، 1967. 1973).
(7)
ثم ارتدت شعارات السياسة الداخلية إلى تخريب الاقتصاد، واستبداد سياسي مطلق، وفساد، وبعث للنزعات الطائفية والقبلية، والهوياتية، وتأجيج للحروب الأهلية داخل الدول العربية، والتي انتهت إلى دول فاشلة. ولكن بدلا من إدارة حوارات مساومة عميقة بين أنظمة الاستبداد العربية وشعوبها ، لاجتراح نظام عقد اجتماعي جديد في الحكم أساسه الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات، طفقت ذات الأنظمة الاستبدادية العربية التي رفعت شعارات التحرير، والنهضة الكذوبة في ابرام الاتفاقيات السرية والعلنية مع إسرائيل،متوهمة أن التحالف مع أمريكا وإسرائيل سيضمن لها الديمومة في الحكم، بعد أن أيقنت باستكانة وموات شعوبها تحت وطأة القهر والاستبداد، ولكن إذا أراد الله أمرا هيا له الأسباب، فقد اشتدت حالة البينونة الكبرى بين الأنظمة العربية الاستبدادية والشعوب حتى انفجرت الشعوب في ثورات الربيع العربي عام 2011م والتي أطاحت بتلك الانظمة الاستبدادية الراسخة، وما ان بدأت الشعوب العربية في حوارات الثورة الديمقراطية وتمكين قوامتها في الحكم من جديد، حتى أدركت إسرائيل والملكيات الاقطاعية العربية البترودولارية خطورة ترسيخ معادلة الحكم الديمقراطية الجديدة في المنطقة العربية على انظمتهم، ولأن المصايب يجمعن المصابينا فإن التطبيع العربي الإسرائيلي هدفه الاستراتيجي استنساخ أنظمة استبدادية جديدة في المنطقة العربية، وتعطيل ثورة الشعوب العربية الثالثة من تحقيق ذاتها في معادلة الحكم والبناء الديمقراطي المستدام، وتعطيل مشروع النهضة العربية، واستمرار حالة الأزمة والانهاك والتآكل الداخلي في بنية الدولة العربية القطرية، فإسرائيل لا ترغب في تطبيع بمغزاه الثقافي والحضاري تقوده الشعوب العربية لأن ذلك مهددا لكيانها وهويتها الدينية والثقافية، بل تنزع للتطبيع مع أنظمة فوقية استبدادية حتى تضمن صيرورة تفوقها السياسي والاقتصادي والعسكري في المنطقة، ولذلك فإن التطبيع العربي، الإسرائيلي بصيغته الراهنة ثورة مضادة في الصميم.
(8)
إن تصريحات الدكتور حمدوك بشأن التطبيع السوداني، الإسرائيلي تعبر عن قيم الثورة السودانية ولكنها بالمقابل ستقوي من تيار الثورة المضادة الداخلي العميق الصلة بمحور الثورة المضادة العربي، الإسرائيلي والذي يهدف إلى تصفية ووأد الثورة السودانية واستنساخ نظام استبدادي جديد تابع لهذا المحور الإقليمي، والذي يحظى بالدعم الأمريكي خاصة أن قيم الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان ليست من أولويات الإدارة الأمريكية الحالية، لذلك فإن تحصين الثورة السودانية من الخطر المتنامي للثورة المضادة يكمن في إنهاء حالة الشرخ الوطني واصطفاف كل القوى السياسية الوطنية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، والحركات المسلحة، والإدارات الأهلية، والطرق الصوفية في كتلة تاريخية وطنية صلبة لإنجاح مهام الفترة الانتقالية، وتحقيق التحول الديمقراطي المستدام.في وطن يسع الجميع
(9).
فالكرة لا زالت في ملعب قيادات قوى الحرية والتغيير للتحرر من نزعة التشفي والانتقام، فالعظماء يظهرون النبل الوطني في لحظة النصر، والتصدي لقيادة تشكيل الكتلة الوطنية التاريخية، في لحظة تاريخية مفصلية يكون فيها السودان أو لا يكون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *