للعطر افتضاح- استقيموا قبل أن تُحاسبوا – د. مزمل أبو القاسم

‏لم يكن مجلس السيادة الانتقالي بحاجة إلى الاستفاضة في تبيان ملابسات صفقة السيارات بعد أن قرر إلغاءها، إذ كان يكفيه إثبات التجاوز، وإدانة الفعل المُنكر ببيانٍ مقتضبٍ، يعلن فيه إحالة المتورط إلى المحاسبة توطئةً لإعفائه من منصبٍ لا يدري أحد كيف بلغه أصلاً.

أمين عام مجلس السيادة بمثابة وكيل لوزارة رئاسة الجمهورية، أي أن المنصب مدني في الأساس، وينبغي أن يشغله من يستحقه ويمتلك مؤهلاته، وفقاً لنصوص قانون الخدمة المدنية، وبمنافسة معلنة، أو بتدرج طبيعي في الهيكل الوظيفي، مثلما يحدث في كل مؤسسات الدولة.

إذا صدقنا أن الأمين العام (ضابط عظيم برتبة فريق في الجيش)، تصرَّف من تلقاء نفسه، ولم يستشر أحداً في مجلس السيادة قبل أن يخاطب وزارة المالية، طالباً منهما شراء سبعين سيارة فخمة للقصر بما يقارب التريليون جنيه بالقديم في هذا الظرف الاقتصادي العصيب، وفِي دولة مفلسة دفع شبابها دماؤهم، وجادوا بأرواحهم وهم يهتفون (ضد الحرامية)، سعياً لإصلاح شأن بلادهم، فسيدل فعله على حجم الخلل الإداري والمالي، ومقدار الفوضى التي يدار بها المال العام في قمة هرم السلطة الانتقالية.

وإذا كان المجلس يعلم وأنكر ليلقي تبعات التجاوز على الأمين العام منفرداً فالمصيبة ستكون أفدح وأجلّْ.

* المؤسف في البيان أن مجلس السيادة حاول تبرير التجاوز بعبارة (تأكيد الأمين العام على سلامة موقفه المالي والإداري في الوثائق الرسمية).. قبل أن يعلن إلغاء الصفقة.. فعن أي وثائق، وعن أي سلامة يتحدث المجلس؟

خاطب مجلس السيادة ممثلاً في أمينه العام وزارة المالية في شهر مايو الماضي طالباً شراء (70) سيارة، وأوكل التنفيذ إلى شركة خاصة تسمى (بست إنفستمنت للاستيراد والتصدير)، استناداً إلى ثلاث فواتير، ومن دون عطاء، ومن دون إحضار عروض أسعار من وكلاء السيارات في السودان، وطلب من المالية استلام السيارات القديمة توطئة لبيعها.

فعل ذلك مع تمام علمه بأن الإجراء مخالف لقانون الشراء والتعاقد، وأن القانون الذي يحكم التخلص من الفائض هو نفسه الذي يحكم الشراء، فلماذا أوكل للمالية مهمة بيع (الاسكراب)، واحتكر لنفسه ميزة تسمية مشتري (الفواره)؟

كان على مجلس السيادة (المهموم بالإنكار وتبرئة النفس)، أن يحقق في الطريقة التي تم بموجبها اختيار الشركة المحظوظة، والتدقيق في تعاملاتها السابقة مع القصر إن وُجدت، وتحديد ما إذا كانت قد تمت بطريقة قانونية، أم أديرت بالنهج المدغمس نفسه، وجرت عليها قاعدة (دفن الليل أب كراعاً برة).

كنا سنحترم المجلس أكثر لو قرن إلغاء الصفقة بالتحقيق ومعاقبة المتورطين فيها، وبمطالبة رئاسة الوزراء بمحاسبة من وافقوا على تمويل الصفقة في وزارة المالية، بدلاً من محاولة تبرئة المخطئ من أوزار الصفقة الفاسدة بالحديث الفارغ عن (سلامة موقفه المالي والإداري).

إذا كان توريد سيارات فخمة بقيمة (482) مليوناً بالجديد من دون عطاء إجراء سليم من الناحيتين المالية والإدارية كما ورد في بيان مجلس السيادة، فكيف يكون التجاوز إذن؟

نذكِّر من أعدوا البيان الفطير بأن الدولة التي يتربعون على قمة هرم سلطتها حظرت على الشركات الخاصة استيراد السيارات بقرار أصدرته وزارة التجارة قبل شهور، فكيف وبأي نهج كانت الشركة المحظوظة ستستورد سيارات القصر الفخمة؟

الواضح من البيان أنه استهدف طَي صفحة الكارثة المليارية بالإلغاء من دون تحقيق أو محاسبة، بالنهج ذاته الذي تعامل به مجلس الوزراء مع صفقات شركة الفاخر، التي أعلن رئيس الوزراء بلسانه قرار إحالتها إلى التحقيق في الخامس من شهر مارس الماضي، عقب اجتماع ثلاثي ضم مجلسي السيادة والوزراء والمجلس المركزي للحرية والتغيير.

مرت خمسة أشهر ولم يتم تنفيذ القرار، ولم نرَ أثراً للجنة (التخدير)، والأدهى من ذلك أن ظاهرة استيراد السلع الاستراتيجية بنهج فاسد ومخالف لقانون الشراء والتعاقد صار قاعدةً، وما سواه شاذ.

حدث ذلك في عقود استيراد القمح والجازولين والبنزين والغاز، وفِي صفقات استيراد والخيش والأسمدة داخل البنك الزراعي السوداني الموبوء بالفساد، وفي تصدير الذهب، بتجاوزاتٍ مُشهرةً، حدثت أمام ناظري مجلسي السيادة والوزراء والنيابة العامة، ونشرت (اليوم التالي) تفاصيلها ومستنداتها الدامغة، فلم تحرك حكومة الثورة ساكناً لمحاربة وباء الفساد الجديد، حتى فاحت روائحه النتنة، وأزكمت الأنوف.

أوضحت تلك الفضائح المجلجلة أن القائمين على أمر الدولة لا يَرَوْن في الفساد الجديد خطراً على البلاد والعباد، وأن جُل همهم محصور في مكافحة فساد العهد البائد ليس إلا، وأن أي فساد يحدث العهد الحالي مقبول، ولا يستوجب المكافحة ولا المحاسبة ولا حتى الاستنكار ببيان، وذلك أضعف الإيمان.

العطاءات المحدودة التي أجراها البنك الزراعي لاستيراد السماد والخيش (بعشرات الملايين من الدولارات) اقتصرت على مهلة قصيرة ومريبة حدثت في عز أيام الإغلاق، وامتدت لثلاثة أيام عمل فقط، وتم إجراؤها في نهاية الأسبوع!

قبل فترة أقدم وكيل وزارة الزراعة عبد القادر تركاوي على مخاطبة البنك الزراعي طالباً تخصيص كميات من بذرة عباد الشمس (منتهية الصلاحية ومعالجة كيميائياً)، لمنظمة طوعية تعمل في مجال السلام، بادعاء أنها ستستخدمها في (مكافحة الحشرات)!

استجاب البنك الزراعي للطلب برغم غرابته وقبح تفاصيله، وسلم المنظمة البذرة الفاسدة، فتسربت إلى أحد مصانع الزيوت في العاصمة، وبيعت كميات منها لمعصرة أخرى في ولاية الجزيرة.

 

نشرنا الكارثة بمستنداتها، بعد أن تم فتح بلاغ جنائي فيها بنيابة الخرطوم بحري، ودفنت القضية في رمال الإهمال.

بل تمت ترقية وكيل وزارة الزراعة إلى وزير مكلف لوزارة الزراعة.. لذلك لا نستبعد أن تتم ترقية أمين عام القصر الجمهوري ليصبح عضواً في مجلس السيادة لاحقاً، بدلاً من إقالته وتحويله إلى المحاكمة!!

استقيموا، وارتفعوا إلى مقام ثورةٍ عظيمة، مهرتها دماء غالية لشباب في عمر الزهور، جادوا بأرواحهم وبذلوا دماءهم رخيصةً كي يشتروا بها مستقبلاً أفضل لأهلهم وشعبهم.

صونوا المال العام من العبث، وحاربوا الفساد الجديد قبل أن يجرفكم تياره النتن، مع سياراتكم الفخمة، ومخصصاتكم الضخمة

(اليوم التالي)

Exit mobile version