آراء و مقالات

العين الثالثة -(غندور في فتيل)! -ضياء الدين بلال

-١-

كان ذلك العنوان يتصدر مانشتات إحدى الصحف في يوم اعتقال غندور!
قبل أشهر طلبت من بروفسير إبراهيم غندور إجراء مقابلة تلفازية في برنامج (حوار مفتوح) بقناة النيل الأزرق.
وافق الرجل مشكوراً، بعد يومين كتبت عموداً صحفياً عن توجه الإسلاميين لتكوين حزب جديد.
قلت في ذلك العمود:

على الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، قبل تغيير الأسماء وعناوين المقار والعودة إلى المسرح؛ عليهما التفكير في جدوى الفكرة والمشروع بمُمارسة نقد ذاتي صادق وقوي وجريء يُعيد فحص المسلمات وتقييمها.

الحقيقة التي يصعب تجاوزها أن مشروع الحركة الإسلامية في السودان، جاء لإكمال تمام الدين في السياسة والاقتصاد والمجتمع؛ ولكن بتداعيات تجربته السالبة هدَّد إسلام الفرد!

نصيحتي للقيادة الجديدة التي تتولَّى ترتيب أمر الحركة والحزب، أن تعتبر الفترة الانتقالية مرحلةً زمنيةً للانكفاء على الذات والنقاهة السياسية، للاستشفاء من أمراض السلطة وإبراء جراح الخروج منها عبر الباب الضيِّق الحرج!

نعم، عليكم إقناع الأبناء في المنازل الذين ثاروا على مشروعكم،واستعادة ولاء وثقة عضويتكم المخذولة في قادتها، قبل التفكير والعمل لاستقطاب آخرين، وتأكيد الوجود بصوت خفيض وخاطر جريح وتركة ثلاثين عاماً لم تخضع للتصفية.
-٢-
بعد أيام من كتابة ذلك العمود الصحفي اتصلت ببروف غندور لتحديد موعد إجراء الحوار.
فاجأني البروف بالاعتذار، وقال لي بطريقته الساخرة:(داير تحاورني لشنو بعد ما شيعت حزبي ووديتو المقابر،داير تديني الفاتحة؟؟؟).

أعرف بروف غندور منذ بداياتي في العمل الصحفي، قناعتي به، هو من أفضل وأميز السياسيين السودانيين.

غندور سياسي حصيف وذكي، يُجيد التعامل مع الآخر البعيد، بلغة مُتصالحة وأسلوبٍ رصين، وليس في أرشيفه عبارات استفزازية أو مواقف مُتطرِّفة.
-٣-
لا أجد أي مبرر لاعتقاله فهو صاحب خطاب متوازن ومعتدل، بل في فترة، دعا لفكرة المعارضة المساندة.
التضييق على التيارات الإسلامية ووضعها جميعاً في (فتيل) واحد ومحاولة إقصائها عبر إجراءات قمعية لن تجني منه البلاد خيراً.
سيرفع درجة الاستقطاب وسيزيد من التوترات التي تعقد مهام الفترة الانتقالية، مما يعيق ترسيخ الاستقرار وبناء دولة القانون والمؤسسات.
حينما انقسم الإسلاميون في مفاصلة البشير والترابي تطاير شرر ذلك الصراع ليشعل حريق دارفور.
في تاريخنا السياسي، الإقصاء لا يولد غير العنف والمغامرات غير محسوبة العواقب.
-٤-
كان على حكومة الفترة الانتقالية ألا تستدعي الأساليب القمعية في التعامل مع الخصوم، وتدفع بكل الإسلاميين إلى ركن قصي ضيق.
نعم عليها محاسبة كل من أفسد أو تجاوز عبر القانون الطبيعي مع عدم أخذ البريء بذنب المجرم.
عليها تجريد المؤتمر الوطني من كل الامتيازات التي نالها بغير حق ومحاكمة من أخذ من مال الدولة لخزانة الحزب.
هذا حق الشعب وواجب السلطات الانتقالية ولكن الإقصاء والتضييق ومحاولة الإقصاء السياسي لن تنتج غير العنف والفتن.

حينما يُستهان بالقانون تسقط القيم وتسود ثقافة الغاب، ويختلُّ نظام الدولة ويضطَّرب مسار الحياة، ويتطبَّع المُجتمع مع الفساد والعنف، وينقسم على نفسه بين ظالمين ومظلومين.
-٥-
كتبت في هذه المساحة، قبل سقوط نظام الإنقاذ:
عندما يصل المُعارضون إلى الحكم، سيُمارسون ذات السلوك السياسي الذي مارسه سابقوهم: الفساد والمحسوبية وسوء الإدارة وقمع الخصوم.
وعندما ينتقل الحاكمون إلى المُعارضة، يستخدمون ذات الأسلحة الصدئة التي كانوا ينكرونها على مُعارضيهم.
-أخيراً-

الدرس الذي يجب أن يعيه الجميع: السياسةُ ابنةُ المُفاجآت، لا تثقْ في الرَّاهن ولا ما في يدَيك، ولو كنت تظنُّ أنك تُحكِم الإمساك به، الدنيا قلبٌ والأيَّام دول، فما تملكه الآن قد تفقده في ارتداد الطرف وما تضن به على خصمك اليوم من عدل وإنصاف قد تحتاجه غداً ولا تجده!
نشر بصحيفة (السوداني).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *