الأخبارالأخبار الرئيسيةعالميولايات

اسرة البشير تذرف الدموع بعد لقائها به بالمحكمة

من داخل المحكمة .. وقف البشير لأول مرة متحدثاً مع أسرته، كان ثمة تدافع بالقرب من فتحات القفص الحديدي، وقد أوصاهم على شيء ما جعل عيونهم تتفجر بالدموع

بقلم : عزمي عبد الرازق

في الأول هبطت الكلاب البوليسية من سيارة الأدلة الجنائية وانتشرت في أنحاء المحكمة، كانت أنوفها السوداء المدببة تخترق كل شيء أمامها، كما لو أنها تبحث عن خطر دفين لتبطله، ذلك بالضبط قبيل بداية انعقاد محاكمة البشير في الخرطوم، أو الرئيس المعزول، سمه السابق، قل المخلوع إن شئت، ولكن لا يمكن بأية حال أن تتجاهل مقطوعة (نهر الجور) المنبعثة من استريو ليس ببعيد، بالمزمار الذي افترع به الموسيقار السوداني بشير عباس اللحن الرهيب منذ ستينيات القرن الماضي، وقد أطل القاضي بذات السمت الوقور، منوهاً إلى رفض استخدام قاعة المحكمة منصة للتصريحات التلفزيونية، حتى لا تكون محوراً للسجال، وقد عبر عن انزعاجه بتهذيبٍ شديدٍ أيضاً.

الطعن في قاضي الثورة

 

قبل العاشرة صباحاً عبرنا المسافة إلى معهد العلوم القضائية بضاحية أركويت، حيث أطل البشير من ذات المدخل الشرقي للقفص الحديدي، تحت وطأة تحفز أمني رهيب، ليواجه تهمتي الثراء الحرام والمشبوه والتعامل بالنقد الأجنبي، ولم تكن هيئة الدفاع في كامل استعدادها، حيث طالبت بتأجيل الجلسة، ونبهت أيضاً إلى الاستديو التحليلي الذي يعقده تلفزيون السودان القومي للمحكمة كل سبت، كما لو أنها مباراة لكرة القدم، وفقاً لوصف ممثل الدفاع هاشم أبوبكر الجعلي، الحاضر دوماً بالردود اللاذعة، غير أن تلك الأجواء لم تكن رحيمة بالقضية، ربما بسبب تفجر الخيوط والشهادت التي تمضي في غير صالح الدفاع، ما اضطره للطعن في القاضي الأول، الذي أخذ اعترافات المتهم وخرج شاهراً هتافه في مواكب الثورة، وبالتالي فقد حياديته، ما جعل هيئة الدفاع تطالب بفحص التدابير القضائية التي اتخذتها محكمة الموضوع لتصحيح مسار الدعوى، عطفاً على أن هيئة الدفاع ربما أدركت الطريقة التي يفكر بها القاضي الحالي (الصادق عبد الرحمن الفكي) من وقع المداخلات القصيرة، أو التكهن بما سيؤول إليه الأمر، لذا غيرت أسلوبها وخط سير المرافعة.ينبغي الإشارة أيضاً إلى الشاهد الخطير المجلوب من سجن كوبر حتى قاعة المحكمة، تحت حراسة مشددة، وبكل ما ظل يثيره من جدل متعاظم طوال ثلاث عقود خلت، كان إلى جانب الرئيس المعزول، كظله، حتى في السجن، وينبغي كذلك الإشارة إلى رفض القاضي طلب الدفاع تأجيل الجلسة إلى حين البت في طلب الفحص المقدم للمحكمة العليا، والذي تأخر رغم محاولات تسريع إجراءات هذه القضية تحديداً، إذ إنها تراوح مكانها وتصطدم كل مرة بما هو مربك ومحير، كما يبدو.

 

الشاهد الوحيد

 

أشار ممثل الدفاع هاشم أبوبكر الجعلي إلى أن الشهود الذين اعتمدوا عليهم تغيرت أحوالهم وأوضاعهم خلال الأسابيع الماضية، فغادر بعضهم البلاد، وغادر شخص آخر منصبه، لمجرد إعلانهم، وقد أحالته المؤسسة التي يعمل فيها وهى (جهاز المخابرات) إلى التقاعد بصورة غامضة بمجرد طلب شهادته، ما جعل هيئة الدفاع تعتبر أن هذه الأجواء المشحونة تعيق تدفق الحقائق، إضافة لانتظار رد المحكمة العليا، حتى وإن جاء سالباً بالنسبة لهم، فإن أبواب التظلم لا تزال مفتوحة، كما أن بعض الشهود تفادوا الإعلان، لكن القاضي مع ذلك أصر على سماع الشاهد الوحيد، وقبله اعترضت هيئة الاتهام على تأجيل الجلسة، بحجة أن الدفاع عندما تقدم بهذا الطلب استند إلى نص في قانون الإجراءات الجنائية، الهدف منه أن تتبين المحكمة الخيط الأبيض من الخيط الأسود فيما يتعلق بإفادات الشهود .

 

سجن وزير الدفاع

 

هاهو وزير الدفاع السابق ونديم البشير طوال سنوات خلت يمشي على جناح الشهادة المغلظة. بدا الفريق عبد الرحيم محمد حسين  نحيفاً، كما لو أن جدران السجن أكلت لحمه، كان يرتدي جلبابا ناصع البياض، بالكاد يواري صورته القديمة، مهندس سلاح الطيران وإبن كرمة البلد الذي ظل يحرس ذات ثغرة القيادة التي أُتِيَ منها البشير، أخيراً كما كان يخشى، دلف عبد الرحيم إلى الداخل متفادياً قطار المجلس العسكري من دون فائدة، وتحسس المصحف القابع تحت المنضدة بيمناه، رأيناه هنا على بعد خطوات غير مهيبة ومع المشير الحبيس، الذي انعتق من فرط إبائه محطماً أسطورة الرئيس الذي لا يمتثل للقضاء في بلادنا، رغم أن سيرته الطويلة في السُلطة، أي البشير ورفيقه، ارتبطت بعمر الجيل الذي هب بعد ثلاثة عقود كالعاصفة في وجههما، حتى رأينا جدران العظمة تتصدع، كما لم نرها من قبل.ابتسم البشير عندما تقدم وزير دفاعه الأشهر، كما لو أنه تذكر تلك الحكاية التي روتها له امرأة عندما رأته في المنام فقال لها ” لو عبد الرحيم ما معاي دا ما أنا” سأله القاضي: اسمك وعمرك ومكان السكن، فقال: ” عبد الرحيم محمد حسين عبد الكريم، العمر 70 سنة، وأسكن حالياً الخرطوم 3 “.

 

الشاهد وضباط السجن

 

أحاط بالشاهد بعض ضباط السجون بالأزياء ذات مسحة الكاكاو، وقد أثار ذلك قلق هيئة الدفاع فطلبت من القاضي إبعادهم قليلاً عن عبد الرحيم حتى يدلي بدلوه تماماً، وبالفعل ابتعد الضباط للوراء خطوتين تقريباً، وبدا عبد الرحيم يتحدث عن الوظائف التي شغلها، قبل أن ينتهي به الحال في إدارة الجهاز القومي للاستثمار، كان في الأول أميناً عاماً لمجلس قيادة الثورة، وبعدها أصبح وزيراً لرئاسة الجمهورية، عدة مرات، ووزيراً للدفاع لأكثر من تسع سنوات، وللداخلية عدة مرات، ثم والياً للخرطوم لنحو ثلاث سنوات، وقد أفاض في شرح مهام رئاسة الجمهورية، التي قال إنها مسؤولة مباشرة عن الأمن القومي والدفاع والعلاقات الدولية والاقتصاد الكلي، وتتكون من الرئيس ونوابه، أما الرئيس فلديه صلاحيات واسعة، أو صفة مستقلة، قالها باللغة الإنجليزية، ومضى أكثر للحديث عن بيت الضيافة، وتحديد الطراز الذي بني عليه، وكشف لأول مرة أنه صاحب الفكرة والتخطيط المسبق، لبيت الضيافة، ذلك العرين الرحب للسُلطة، كان الرجل يتحدث بسرعة، حتى إن هيئة الدفاع طلبت منه التمهل، وكذلك القاضي، فرد عليهم ” أنا باتكلم بسرعة”قدم عبد الرحيم صورة لبيت الضيافة بالكيلومترات، وأشار إلى أن توسع مهام الرئاسة دفعهم للشروع في إقامة مكتب للرئيس داخل المبنى، إلى جانب سكن البشير وسكن الوالدة (الحاجة هدية) يقصد والدة البشير التي توفيت وهما في السجن، بعد ترحم عليها عدة مرات، وأضاف أن أقرب مسكن للزوجات، يبعد نحو 120 متراً عن المكاتب، كما أن كل مهام الرئاسة باستثناء اعتماد السفراء تقام فيه، تحديداً في الفترة المسائية، كل هذا تقريباً ليبعد شبهة الاحتفاظ بمال في سكن الرئيس السابق.

 

جلسة سرية

 

وحول علمه بمبلغ الاتهام، قال الشاهد ” عندي علم بالمبلغ، وأنا كنت قريب من الرئيس، أي زول عارف الحكاية” انقطع فاصل قصير من الضحك، وقد أكد عبد الرحيم أن الرئيس السابق أخبره بوصول مبلغ من الأموال من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، من دون أن يحدد كميته ولا كيفية التصرف فيه.وبخصوص دور رئاسة الجمهورية في العلاقات الخارجية قال عبد الرحيم محمد حسين إن الأصل في العلاقات الدولية رئاسة الجمهورية، أو العلاقات الرئاسية، منبهاً إلى أن الرئيس هو الذي يعين السفراء. وإزاء المبلغ المشار إليه قال الشاهد ” ما عندي تفاصيل، لكن عرفت بأن طيارة جاءت من السعودية نزلت وهى تحمل الأموال، وقد ذهب مدير مكاتب الرئيس لاستلامها” وطفق مفنداً إمكانية دخول الأموال عبر القنوات الرسمية، مرجعا السبب إلى الحصار الاقتصادي على السودان، إلى درجة أنهم أحياناً يرسلون رواتب السفراء داخل “حقيبة دبلوماسية”. وقال عبد الرحيم بعد أن التقط أنفاسه لبضع ثوان “أنا لا أستطيع الحديث هنا، لدي معلومات تمس الأمن القومي، لو سمحت لي المحكمة بجلسة سرية” فرد القاضي: “أي حاجة تمس الأمن القومي لا نريدها”.

 

الأمن القومي والعملاء

 

في هذه اللحظة تدخل الدفاع قائلاً ” إذا كان ثمة تصرفات قام بها الرئيس أو الشهود تمس الأمن القومي نلتمس لهما جلسة سرية” لكن القاضي التزم بحماية الشاهد، بحكم أن هذه الحماية مسؤوليته، كما أن الشاهد أشار إلى أن ظروفا اضطرتهم أحياناً للتعامل خارج القنوات الرسمية وتجاوز اللوائح المالية بسبب الحصار. وعندما سألته هيئة الدفاع عن الاجراءات التي قام بها الرئيس لحماية الأمن القومي قال الشاهد إنه لا يستطيع ذكرها في جلسة غير سرية، واعتبر أن الرئيس عنده سلطة تقدير المطلوب، وهو المسؤول المباشر عن أجهزة الدولة. وعندما طلب منه الدفاع شرح بعض القوانين التي تبيح للرئيس التصرف تدخل ممثل الاتهام قائلاً “نحن نعترض. عاوزين نعرف الشاهد دا أصلاً شنو، خبير في شنو؟”.

 

حوارات مختصرة

 

في مداخلة عاصفة قالت هيئة الدفاع إن الرئيس أحياناً يقوم بتقدير بعض التصرفات المالية، كالتبرعات والدفع للعملاء وو.. ” لكن القاضي أوقفهم، وقال إن مهمته حماية الشاهد، ولا يريده أن يتوغل في تلك المناطق الشائكة، وهو يقصد الحديث عن العملاء، غير أن الاتهام سأل الشاهد بصورة مختصرة ” هل عندك علاقة أسرية بالرئيس نسب أو قرابة؟” فرد لا، وجاء السؤال الثاني مباغتاً “ماذا عن علاقتك أنت، أو أي أحد من أسرتك، وماذا عن صيدليات علياء؟” في إشارة إلى صيدليات منتشرة في العاصمة الخرطوم كانت معلومات قد رشحت أنها ملك لابنة عبد الرحيم محمد حسين، فهاجت القاعة تحت وقع هذا السؤال الذي اعترض عليه القاضي قبل الدفاع، لكن عبد الرحيم بعد أن افتر ثغره عن ابتسامة عريضة رد بالقول “لو سمح لي القاضي حا أجاوب” فلم يسمح له القاضي.

 

عبد الرحيم لا يعلم

 

انقطع فاصل من أسئلة الدفاع القصيرة وأجوبة الشاهد المختصرة جداً، إذ يبدو أنه أدرك الفخاخ المنصوبة لتوريطه في اعترافات جديدة ربما تجر عليه غضب الشارع، وجاء الحوار كالأتي ” المال الذي وصل من محمد بن سلمان هل تعرف حجمه؟ عبد الرحيم: لا. لحظة العثور على المال هل كنت موجوداً؟ عبد الرحيم: كنت في الخارج. الاتهام كنت خارج بيت الضيافة أم داخل المعتقل؟ عبد الرحيم: كنت جوة السودان جوة الخرطوم. الاتهام: هذه الأموال متى وصلت؟ عبد الرحيم: لا أعلم التاريخ بالضبط. الاتهام: هل توجد أموال أخرى وصلت بنفس الكيفية. عبد الرحيم: لا أعلم. الاتهام: أي أموال تصل بهذه الطريقة لماذا لا تدخل إلى وزارة المالية؟ عبد الرحيم: لا أعلم. الاتهام: كنت وزيراً لدفاع السودان وقد تعرضت البلاد في فترتك لضربات جوية وسقط العديد من البنايات الـ…؟ القاضي يتدخل ويوقف السؤال قائلاً: “يا اتهام، يا نيابة الكلام كدا ما صح، عندكم أي إجراءات عاوزين تتخذها فيه ممكن تتخذوها بالطريقة الصحيحة “.

 

الحساب السري

 

النيابة الممثلة في هيئة الاتهام تنتقل إلى السؤال عن الحساب السري للرئيس، وتسأل هل يتم مراجعته؟ عبد الرحيم يرد: أنا أفتكر يتم مراجعته، ولكن لا أذكر كيف. الاتهام: هل تم مراجعة الحساب السري؟ عبد الرحيم: “ما عارف، ما عارف، لا أعلم” وقد خلص الشاهد إلى أن الأموال التي تصل إلى رئيس الجمهورية بصورة شخصية يتصرف فيها بالكيفية التي يراها. أما السؤال الوحيد للقاضي في هذه الجلسة كان بالضبط تعديلاً للسؤال السابق: هل هى مبالغ خارج الميزانية؟ عبد الرحيم: نعم.

 

الوصية الباكية

 

إلى ذلك فقد طالب الاتهام باستبعاد شهادة عبد الرحيم محمد حسيم نتيجة لما وصفه بـ”الولاء والمصلحة بين الشاهد والمتهم، حيث إن الشاهد تقلب في المناصب يمنة ويسرى، وتربطه علاقة خاصة بالمتهم البشير” لكن القاضي أخذ بالشهادة، واعتبر الالتماس يراعى عند مرحلة وزن البينات، بعدها غادر عبد الرحيم القاعة بخفة لا متناهية، ولحق به ضباط الحراسة، إلى مقر إقامته في سجن كوبر، لينهي بذلك جلسة عاصفة، لم يكن مقدراً لها أن تمر من دون دموع، حيث وقف البشير لأول مرة متحدثاً مع أسرته، كان ثمة تدافع بالقرب من فتحات القفص الحديدي، وقد أوصاهم على شيء ما جعل عيونهم تتفجر بالدموع، سألت إحدى النساء، تقريباً شقيقته : بماذا أوصاكم؟ فلم ترد عليَّ، سألت واحدة أخرى فقالت “على بعض أسر الأيتام الذين كان يكفلهم”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *