لماذا انتصرت القوات المسلحة؟

لماذا انتصرت القوات المسلحة؟
استوحيتُ هذا العنوان سادتي من أسئلة مذيعي القنوات الفضائية الذين يطلقون هذا (السؤال الكبير) على الهواء مباشرةً وقد كتبه المحرر أو المخرج للنشرة الإخبارية ويريد الإجابة عليه في دقائق معدودات ليقول لك (على عجلٍ) شكراً جزيلاً كنت ضيفاً علينا ثم يقفز للخبر الذي يليه.. الإجابة على هذا السؤال لا تكفيه دقائق معدودات ولا ساعات ولا أيام ربما فهي قصةٌ طويلةٌ عريضةٌ للبطولة والتضحية والفدائية والجسارة ثم هي جماع الخبرة والتجربة القتالية الموغلة في التاريخ العسكري منذ مشاركات القوات المسلحة في معارك الحرب العالمية الثانية.. وهي نتاج تأهيل القوات المسلحة لضباطها وأفرادها عبر مختلف الدورات الحتمية والتخصصية والإضافية فلا تدرّج في الرتب دون مطلوباته من التأهيل والاجتياز بل والتميّز.. وهي كلها تصب في حقيقة واحدة هي أن القوات المسلحة السودانية جيش نظامي قوي محترف ولن تضيف له دعاوى أعدائه وقد كان (سوق عكاظها) رائجاً في زمن مضى حول (هيكلته) وبنائه ليكون (جيشاً محترفاً) شيئاً من تلك (الاحترافية المدعاة) فهي كلمة حقٍ أريد بها باطل.. هذه عناوين عريضة ولكن تفاصيل ذلك من خلال ما سأورده لكم في ثنايا هذا المقال
في تقدير الموقف الذي يدرسه الضابط السوداني منذ رتبة الملازم ويمارسه تخطيطاً لخوض أي عملية عسكرية كبرت أو صغرت وحتى رتبة العميد واللواء فقرة تختص بدراسة تعادل القوى بينه وبين قوات العدو.. تسرد قوات العدو في جدول وقواته في هذا الجدول لإجراء المقارنة بين القوتين للخروج باستنتاج رئيسٍ واحدٍ لتحديد أين هو التفوق المعادي وكيف يمكن إبطاله أو تحييده وتفاديه وبعدد من الإجراءات وما هو جانب التفوق لديه وكيف يمكن استغلاله للإجهاز على العدو.. إذا ما أسقطنا الأمر على حرب الكرامة التي اندلعت في الخامس عشر من أبريل 2023م ودرسنا موقف القوات المسلحة وموقف مليشيا الدعم الصريع وبذات الكيفية فإن النتيجة قد تهز أي شخص (عاقل سوي).. ومهما كانت درجة شجاعته على مقياس (ريختر) للشجاعة فإن النتيجة ستكون صادمة والأرقام ستكون مخيفة وربما يشيب لها الولدان.. وكنت قد أشرت لتفاصيل خاصة باستعدادات المليشيا وحلفائها الداخليين في قوى قحط ومن لف لفها والخارجيين في دويلة الشر ومن (ابتاعت) ذممهم من جوار السوء السوداني قريباً وبعيداً.. ولن أعيد ذكر ذلك فالمجال قد لا يتسع لذلك ولكن كل من رأي الموقف يومها أصابه من (القلق والخوف) من اختلال ميزان القوى وبشكل كبير لصالح المليشيا بينما أصاب البعض الآخر (الغبطة والسرور) وركنوا إلى القوة المادية المجردة (وفعل المفاجأة) لحصد نتائج (الخيانة) سريعاً وفي وقت لا يتجاوز ساعات معدودات بعد اعتقال الفريق أول البرهان عبد الفتاح أو قتله.. لكن الله سلّم وقد أحاط السودان بكنفٍ من الرعاية وركن ركين من العناية التي جعلته يخرج من هذه المحنة الكبيرة فالفضل له أولاً وأخيراً ثم من بعد لعدد من العوامل المادية أوردها كما يلي:
أولاً. استبسال الحرس الرئاسي. كان هذا أول مؤشر لفشل مخطط الغدر والخيانة حيث استغلت المليشيا وجودها على بعد أمتار معدودة من مقر الرئيس البرهان لتسور الحائط بل وكسره بمعدة جلبت خصيصاً لذلك لتندفع عبر الجدار أكثر منا مائتي عربة لاعتقال البرهان او قتله.. لكن كان أبطال الحرس الرئاسي في الموعد فقاتلوا أشد ما يكون القتال واستبسلوا بفدائية عالية كسرت هجوم التمرد المفاجئ وقدموا خمسةً وثلاثين فارساً كأول. شهداء في حرب الكرامة وليخلى الفريق أول عبد الفتاح البرهان لمقر القيادة العامة.. وكانت هذه بمثابة الحجة الدامغة على المليشيا بأنها لم تنتصر وهي تقاتل من المسافة صفر فكيف لها أن تنتصر وهي اليوم في أضعف حالاتها وقد خسرت الحرب وخرجت من المشهد في كل والسودان عدا ولايات دارفور الأربعة
ثانياً. امتصاص الصدمة. كانت المفاجأة كبيرة للقوات المسلحة التي لم تكن متهيأة للحرب وأكبر دليل على ذلك أن ضباطها كانوا يستقلون سياراتهم (المدنية) وهم في طريقهم لمقار أعمالهم في نهار سبت الغدر الرمضاني فتم أسرهم قبل وصولهم القيادة.. فعمدت القوات في كل المقرات التي هوجمت (بكثافة) وهي القيادة العامة والمدرعات والإشارة والمهندسين والكدرو ووادي سيدنا للدفاع المستميت وامتصاص موجات الهجوم المتكرر.. وفكرة (الامتصاص) هي ذات فكرة (الياي) للسيارات فهي تسمح بالمليشيا بالتقرب وانتظار الهجوم وتكسيره موجة إثر موجة لتسلم في نهاية المطاف كل المقار التي ذكرت وقد شهد بعضها أكثر من مائة هجوم دون أن تنجح المليشيل في احتلال أي منها.. كانت هذه الفترة أكثر فترة تعرضت فيها القوات المسلحة للهجوم والانتقاد والتجريح والتخوين والتشكيك في قياداتها حيث رآها البعض وقد (خذلت) المواطنين ودافعت عن مقراتها فقط ولكن القراءة الصحيحة المجردة تقول أنه لو استجاب الجيش لهذه الحملات التي كان بعضها (مقصوداً) لفقد الجيش مقراته لصالح المليشيا وازدادت الويلات على المواطنين لينطبق على الجيش حينها (لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)
ثالثاًس. مثل سلاح الجو الذراع الطويل للقوات المسلحة السودانية فهي ذراع بطش وفتك بالمليشيا وعناصرها وقد أبلى طياروها بلاءً حسناً رغم الإمكانيات (الشحيحة).. قدموا الإسناد الجوي المباشر والقصف المسبق وعزلوا الدعم اللوجستي الذي كان يترى ما بين الحدود الليبية والتشادية وجبهات القتال واستشهد أكثر من طيار وفقد الجيش أكثر من طائرة
رابعاً. العمل الخاص. كانت فكرة العمل الخاص فكرة عظيمة فقد أنشئ بموجبها العمل الخاص لاستهداف (أوكار) المليشيا ومتعاونيها وتحييدهم واستهدافهم (بليل) ما أثار الرعب في هذه العناصر وتمددت الفكرة لتنشأ في كل الفرق والمدن وكانت نتائجها ظاهرة وباهرة.. وقد منحت المليشيا العمل الخاص ميداناً ممتازاً للعمل من خلال تواجدها (الغبي) في منازل المواطنين بمختلف أحياء الخرطوم ولولا هذا التواجد لما نجحت الفكرة أصلاً
خامساً. إعادة التسليح والتسليح النوعي. وطّنت منظومة الصناعات الدفاعية تلك التي (أوغرت صدور) أعداء القوات المسلحة المتماهين مع مليشيا التمرد فأرادوا تحطيمها واستهدفتها المليشيا بالهجوم بواكير أيام التمرد.. وطّنت قبل الحرب كثيراً من الصناعات واكتفى السودان من كثير من الأسلحة والذخائر الصغيرة وامتد الأمر لصناعة المسيرات وتطويرها.. وبذات النجاح أنشأت المنظومة خط انتاج خارج الخرطوم بعد نشوب الحرب أمّن للقوات المسلحة كل الذخائر بما فيها ذخائر الطيران وكان الإمداد مستمراً رغم معاناة المواقع العسكرية من شح الذخائر.. وشهادة من قيادة أم درمان العسكرية أن الفرد كان يمنح سبع طلقات فقط ليقاتل بها موجات الهجوم الكثيف من المليشيا التي تعتمد الموجات البشرية والكثافة النارية.. وشهادة قائد المدرعات الموثقّة أنه كان لديهم والهجومات تتوالى على السلاح ثلاث دانات مدفعية 120 ملم فقط ولما قال بذلك لأحد قادة الدروع المتقاعدين الذين كانوا برئاسة السلاح مجيباً على سؤاله فرد القائد السابق (ثلاث ألف عدد كويس يا جنرال) فابتسم قائد الدروع اللواء الركن دكتور نصر الدين وقال له (ثلاث فقط سيادتك وليس ثلاث ألف).. أما التسليح النوعي سيما المسيرات فقد تمكّن السودان من جلب تقنيات حديثة من دول مثل تركيا وإيران وروسيا وغيرها كما طوّر شبابه الخلّص الكثير منها محلياً.. وليس أدل على دور منظومة الصناعات الدفاعية في حرب الكرامة من وضع مديرها العام في قائمة العقوبات الأمريكية استجابةً لتوصيات هنا (في السودان) وهناك (بالولايات المتحدة)
سادساً. قراءة تكتيك المليشيا. ميدان الحرب كميدان المباريات تماماً مع الفارق الكبير ولكن وجه الشبه يكمن في قراءة موقف الخصم ومن ثم القيام بما من شأنه تقليل فعالية التكتيك الذي يتبناه ثم إدخال العناصر التي تقوي من مغالبة ذلك التكتيك قوى بشرية ومادية.. هذا ما فعلته القوات المسلحة من خلال منع تكتيك الفزع الذي انتهجته المليشيا باستخدام الطيران الذي كان على الموعد دوماً فقطع الفزع ليترك عناصر المليشيا تحت رحمة القوات المسلحة لتخسر معظم الهجومات التي قامت بها.. ثم إفشال تكتيك (الالتفاف) والذي تعوّل عليه المليشيا لمباغتة متحركات القوات المسلحة حيث نجحت لأول الحرب ولكنها كانت على الدوام تواجه بيقظة عناصر القوات المسلحة ومتحركاتها ما أوقع فيها خسائر جسيمة
سابعاً. استهداف القيادات. كان هذا العامل من أهم العوامل في انتصار الجيش على هذه المليشيا حيث غابت القيادات عن الميدان في كل المستويات أو قل (غُيّبت) من قبل مسيّرات الجيش وصواريخه الاستراتيجية التي دكت الأوكار التي كان بها هؤلاء القادة وقد نجا المتمرد عبد الرحيم دقلو من الموت غير مرة كما غاب رأس التمرد وعرابه منذ الأيام الأولى لاندلاع الحرب
ثامناً. التطويق والعزل (الحصار). يقول تكتيك القتال في المناطق المبنية أن الدفاع عنها أسهل بكثير جداً من الهجوم عليها فهي لصالح المدافع أكثر من كونها لصالح المهاجم الذي يفرض عليه التحرك بحذر وتوقع المفاجأة في كل لحظة من القناصة والكمائن والألغام والأشراك الخداعية.. وقد كانت حرب المليشيا خاصة في الخرطوم مزجاً ما بين حرب المناطق المبنية وحرب العصابات لتجتمع أسوأ أنواع الحروب الخاصة في مواجهة القوات المسلحة.. لكنها كانت على قدر التحدي فخاضت غمار الحرب وطبقت تكتيكات العزل والتطويق وهذه من الكراسات العسكرية ونجحت في تحرير الإذاعة ومصفاة الخرطوم ومنطقة وسط الخرطوم والقصر الجمهوري
تاسعاً. النشاط المتزامن والتقاء الجيوش. هناك عبارة رنانة في التكتيكات الصغرى لا يزال يحفظها معظم ضباط القوات المسلحة وهم في بواكير خدمتهم العسكرية ألا وهي (النشاط المتزامن لجميع الأقسام) وتعني أن الجميع يتحرك ويعمل ولا ينتظر أحد فراغ الآخرين من عملهم ليبدأ هو من حيث انتهوا.. الملاحظ لإدارة الحرب أول أيامها يدرك تماماً أن الجيش كان يعد المتحركات ويطلقها نحو أهدافها ثم ينتظر ما تتمخض عنه من نتائج ليعيد ترتيبات إعداد متحركات جديدة.. لاحقاً وبعد مراجعات لواقع النتائج غيّرت القوات المسلحة من هذا النهج فكان التحرك المتزامن وبتوقيت واحد من كل القوات نحو أهدافها وهذا ما أربك المليشيا وحقق نتائج ممتازة.. ثم كانت كلمة السر التقاء الجيوش الذي يعني سحق المليشيا بين حجري رحى متحركين للقوات المسلحة بحيث لا (يغادر منهم أحداً).. فنجاة عناصر منهم تعني بؤر جديدة للتهديد ومزيد من الانتهاكات بحق المدنيين
عاشراً. حشد الشعب. نجحت قيادة القوات المسلحة في حشد الشعب السوداني للوقوف خلف القوات المسلحة بنسبةٍ لا تقل عن تسعين بالمائة بعد أن وثقّت حلفها العسكري الميمون المؤلف من قوات الشرطة وقوات جهاز الأمن والمخابرات والقوات المشتركة (حركات الكفاح المسلح) وأكبر دليل على ذلك (شلالات الفرح) التي تقرأ في وسائل التواصل الاجتماعي وفي المدن الآمنة التي ظلت عصيّة وبعيدة عن التمرد بعد كل انتصار للجيش.. فاصطف أبناء الشعب السوداني يقاتلون مع حلفها الميمون عبر المستنفرين والمقاومة الشعبية وكتائب البراء وبعض لجان المقاومة وبعضاً من غاضبون وغيرهم ليرسموا لوحة سودانية وطنية رائعة
هذه وباختصار الأسباب الرئيسية التي تكمن وراء الانتصار الكبير للقوات المسلحة الباسلة وحلفها الميمون على قوى البغي والغدر والخيانة والعمالة والارتزاق من المليشيا وحلفها السياسي في تقدّم المنقسمة (ظاهريا) فهم ملةٌ واحدة.. حقّق الجيش بعض المستحيل وكل الممكن فخرج بالسودان من تآمر كبير وحريق هائل التهم بنيته التحتية ودمّر بعضاً من مقدراته وتاريخه وأزهق أنفساً عديدة مضوا شهداء إلى الله سبحانه وتعالى فداءً للوطن نسأل الله لهم القبول جميعاً.. لكن بقي السودان الوطن الواحد شامخاً أبياً يأبى أن يموت إلا واقفاً وإن كان علاه غبار المعارك (وسواد) الحريق وغير قليلٍ من الجراحات دماً (أحمراً) قانياً ولكنه يظل يحمل ذات (بياض) النية (واخضرار) القلب ولعل هذه ألوان رمز سيادة السودان ورايته التي لم ولن تنتكس.. من غيرنا.
اللواء الركن (م) أسامة محمد أحمد عبد السلام