الأخبار الرئيسيةالأخبار

عثمان ميرغني يكتب : الموضوع.. حسابات

عثمان ميرغني

 

الموضوع.. حسابات

عثمان ميرغني

(الجغرافيا فرضت جوارنا.. التاريخ فرض صداقتنا.. المصالح فرضت شراكتنا.. الضرورة فرضت تحالفنا). هذه الكلمات الرائعة قالها الرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي وهو يقف أمام البرلمان الكندي في العام 1961.

أمس، كررها رئيس وزراء كندا ليذكر بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بما يجب أن تكون عليه العلاقة بين البلدين.. بعد أن أعلن ترامب فرض ضريبة 25% على الواردات من كندا. وبمنتهى القوة، قال رئيس الوزراء الكندي لأمريكا: “وقفنا معكم في محن كثيرة.. وسرد معظمها (وكنا نظن أن ذلك يوحدنا.. ولكنكم اخترتم أن نفترق)”.
التحدي الكندي ومواجهة الجارة القوية أمريكا بمثل هذه القوة.. لا ينبع من بلاغة الخطاب الذي ألقاه رئيس وزراء كندا.. ولا من الهتافات.. ولا من المظاهرات في الشوارع ضد ترامب وإدارته المتعجلة في تمزيق الاتفاقيات القديمة.. بل ينبع من “الحسابات”.

بالله عليكم، “أحسبوا” معي بكل دقة.. لنستفيد من تجارب الأمم الأخرى.. فالحكمة ضالة المؤمن، والمعارف الإنسانية ليست حكرًا على أمة دون أخرى.. والرسول صلى الله عليه وسلم تقبل نصيحة سلمان الفارسي عندما أوضح له فكرة عسكرية لم تكن مألوفة لدى العرب، وهي حفر الخندق.. “الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها”.

لاتخاذ مثل هذه المواقف القوية.. الأمر لا يتعلق بقوة الخطب الحماسية بقدر ما يتعلق بـ “حسابات القوة الحقيقية” في مختلف الاتجاهات..
أول مطلوبات هذه القوة هو “المعلومات”.. لفت نظري في الخطاب الرصين لرئيس الوزراء الكندي المعلومات التي أوردها بكل دقة عن تفاصيل العلاقات الاقتصادية.. ليوضح الوزن الحقيقي لما تقدمه كندا للطرف الأمريكي، وأن الأمر أقرب إلى التكافؤ وليس إلى الإحسان والمنة من طرف على الآخر..

ثم تأتي “حسابات” تكلفة الرد.. فعندما قرر استخدام سياسة المثل بفرض ضريبة 25% أيضًا على الواردات الأمريكية.. حدد بكل دقة حجم الاقتصاد المستهدف بصورة كلية تعادل 155 مليار دولار.. ثم المرحلة الأولى المباشرة التي تتأثر بالإجراء وهي 30 مليار دولار.. وهذا يدل على أن القرار اتخذ من داخل غرف مغلقة، حيث جُردت الأدوات المتاحة للمواجهة الاقتصادية، ثم تم اختيار السلاح المناسب بالقدر المناسب.

بل أكثر من ذلك، حدد رئيس الوزراء الكندي مقدار التأثير المباشر على الأمريكيين جراء القرار الكندي..
اخترت هذا المثال الحاضر الآن في المشهد الدولي للمقارنة مع منهج تفكيرنا ومسلكنا العام في سياقين:
الأول: صناعة القرار.
الثاني: الخطاب العام للدولة.

وبصراحة، دائمًا ما يحيرني السؤال الحتمي المهم: ما المعضلة في أن ندير بلادنا بمثل هذا النهج والأسلوب؟ وأقصد بالتحديد مسألة “الحسابات”.. والتي تعتمد على المعلومات.

بكل أسف؛ المعلومات هي أضعف نقطة في دولتنا.. ليس لدينا مؤسسات مهتمة بجمع المعلومات وتوفيرها لمتخذ القرار.. وحتى إذا وُجدت المعلومات -ربما بمحض الصدف- فلن تجد مستهلكًا ينتظرها.. فالقرار، مهما كان صغيرًا أو كبيرًا، يصدر عفو الخاطر، وأحيانًا بشكل ارتجالي من منصات الفعاليات الجماهيرية المفتوحة..

وللتدليل على ذلك، الضجة المثارة هذه الأيام حول الجمارك الباهظة التي فرضتها الحكومة على الأجهزة ومستلزمات البيوت التي يحاول اللاجئون السودانيون في دول المهجر اصطحابها في رحلة العودة إلى الديار.. رغم أن السلطات تعلم أن هؤلاء العائدين لن يجدوا في بيوتهم إلا الجدران، وهم في حاجة ماسة لبدء حياة جديدة من الصفر.

هل كانت هذه المعلومات غائبة عن متخذ القرار؟
أم أنها حاضرة لكنها لا تدخل في صناعة القرار؟

ما هي المعضلة والمعجزة في أن نصنع دولة راشدة.. مثل بقية الدول؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *