محمد جلال هاشم ( ١ )
الغرب مثل التاجر الفاسد الذي يأكل مال اليتيم والسحت في الخارج بينما يتمثل الفضيلة داخل أسرته ..
م ج هاشم
أعرف أن الحب يعمي عن الحقيقة دائما ، إذ أن
عين الرضا عن كل عيب كليلة
وعين السخط تبدي المساويا ..
فهل الإنتماء السياسي كذلك يخفي بعض الحقائق ؟
بالنسبة لأجيال متعددة من السودانيين لو سألتهم عن محمد جلال هاشم ستكون إجابتهم إنطباعية / سماعية ، ربما تكون ( شيوعي ) بكل محمولات كلمة شيوعي عند قطاع عريض من السودانيين ، أو قد يجتهد آخر فيقول لك ( علماني عنصري داير يفرتق السودان طوبة طوبة ) ..
وحين تمايزت مواقفه مع مواقف قحت لم يكن ذلك مدعاة لكثيرين للتوقف عند هذا الموقف ودراسته دراسة علمية ، فما تراكم من إنطباع عن الرجل لم يوفر حافزا لذلك التوقف والدراسة بحيادية تبحث عن الحقيقة دون تطفيف في الكيل أو خسران في الميزان ..
إستمعت لإفادة من الرجل في حوار تلفزيوني ، واستوقفتني الجملة التالية ( في أديس 2012 إجتمعنا مع مسؤول أمريكي كبير في وزارة الخارجية وكانت تلك أول وآخر مرة أجلس مع شخص غير سوداني لأناقش قضايا السودان ، لأنني لا أناقش قضايا السودان مع شخص غير سوداني أبدًا ) ..
كانت العبارة ملفتة ومستفزة للتوقف عند الرجل وأفكاره لقناعتي التامة بأن الإستنصار بالأجنبي أعظم خطرا علي الدعوة لعلمانية الدولة ، لأن الأخيرة قضية جدلية القول الأخير فيها للشعب السوداني بينما الأولي تدخل في باب الخيانة العظمى للشعب والوطن ، وحين قرأت بعضا من كتبه ، نعم قرأت منهج التحليل الثقافي ، و السودانوعروبية .. تحالف الهاربين ، واستمعت لعدد من الندوات ( أردت تأكيد قراءة الكتب حتي أخرج من أولئك الذين عناهم دكتور م ج هاشم بقوله : الإدعاء في وجهي بأنهم قرأوا مثلا كتابي الفلاني مرتين وليس مرة واحدة فحسب ، يظنون أنهم يخدعونني ويخدعون الناس ، بينما لا يخدعون إلا أنفسهم ) ..
بعد قراءتي تلك لم أستغرب موقفه الداعم وبشدة للقوات المسلحة في حرب الكرامة ، ومناهضته للمليشيا وخطاب المناصرين لها من قحت وتقدم ، فالرجل لم يفعل غير أنه اتسق مع القناعات التي ظل يدعو لها ويلتزم بها ، إذ أنه يصدر في جميع أقواله من منهج ثابت يحلل به القضايا وينتهي إلي نتيجة تتسق خواتيمها مع مقدماتها ، يقول في كتابه منهج التحليل الثقافي في سياق تعريفه للدولة الوطنية ( الدولة ذات السيادة علي رقعة من الأرض متعارف عليها وبموجب ذلك لا يجوز لأي قوة خارج حدود هذه السيادة التدخل ) …
وبخصوص موقفه المتشدد من قحت ونقده لها يعتقد الرجل إعتقادا جازما أن ( حمدوك صنيعة إمبريالية ) وأن قرار قحت مرتهن للخارج وتحديدا أمريكا التي يعتبرها ذلك التاجر الفاسد ( أكال السحت ومال اليتيم ) ..
حسنا ذاك هو الجزء الذي نتفق فيه مع الدكتور ، ودعونا ننتقل إلي ما لا نتفق معه فيه ، وبما أنه دعا إلي أن ، ( نتفق مع الفكر أو نختلف معه بدرجات تزيد أو تنقص ، لا أن نؤمن به أو نكفر ) فإني سأتعامل مع أقواله بناء علي هذا الأساس لأنه إتفق مع قاعدة قديمة حفظتها من الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي وهي ( الإختلاف في الأفكار مجاله الخطأ والصواب وليس الكفر والإيمان ) ، يقوم مشروع الرجل علي أن الهوية هي القضية المركزية في أسباب تخلف السودان والحروب المستمرة فيه ، وأن مشكلة الهوية ناتجة عن إستغلال ( الثقافة الإسلامو عربية ) كأيديولوجيا وفرضها بالقوة علي السودانيين ، وهو في ذلك يفرق بين الثقافة الإسلامية والعربية كتراث حقيقي وبين ( الإسلامو عربية ) كأيديولوجيا قائمة علي الأسلمة والتعريب ، ثم يعتقد جازما بأن الدولة الوطنية لابد أن تكون علمانية كشرط بنيوي لقيامها ووجودها ( وهنا ينفي الرجل دعوته لفرتقة السودان طوبة طوبة مؤكدا أن تحريفا تم لحديثه الذي كان يقول فيه إذا نعدمت العلمانية إنتفت مبررات وجود السودان وحيتفرتق طوبة طوبة ونحنا اللي حنبنيهو طوبة طوبة ) ، علي كل تلك هي الأفكار المركزية في أطروحته ، ومبعث إختلافنا معه هو أن الدولة الوطنية الديمقراطية ينبغي أن تعبر عن ( روح الأمة وفقا لمونتسكيو ، أو الإرادة العامة للشعب وفقا لجان جاك روسو ) كما أورد هو نفسه في كتابه ، أليس من حق الشعب أن يعبر عن ثقافته وروحه الحضارية مهما كانت خلفيات هذه الثقافة والروح الحضارية ؟ وبمثلما تواثق المؤتمرون في ويستفاليا علي أن العلمانية هي المولود الذي خرج من ثنايا التجربة الغربية وفقا لظروف معينة سار فيها التاريخ الأوروبي وخاصة في عصوره الوسطي ألا ينبغي للآخرين إستعارة هيكل الدولة ( وتشطيبه وتحسينه بمنتجاتهم الحضارية المحلية ) ؟ والسؤال الأبرز هنا هو ماهي المرجعيات الفكرية التي ننطلق منها حين البحث عن إجابات لواقعنا الحياتي ، بصورة أخري ماهي النظرية المعرفية التي نلتزم شروطها للتوصل لتلك الإجابات ؟ هل هي نظرية أصيلة تنبع من واقعنا بكل أبعاده الفكرية والفلسفية وتاريخه الطويل ، أم أنها نظرية تنتهي شروطها عند مفكري عصر النهضة الأوربية ؟ الإجابات علي تلك الأسئلة وبقية القضايا المركزية في الحلقة القادمة ..
ياسر يوسف