التيجاني عبد القادر حامد … يكتب… الصفقة الكبيرة الخاسرة (4-7): الفريق حميدتى بين العصا والجزرة
الصفقة الكبيرة الخاسرة (4-7):
الفريق حميدتى بين العصا والجزرة.
التيجاني عبد القادر حامد
24 يوليو 2024
حينما اندلعت الحرب الأوكرانية الروسية اصطفت القوى الغربية كلها في جهة، واصطف المؤيدون لروسيا في الجهة الأخرى. وأطلت الحرب الباردة بين القوتين العظميين من جديد، وأطل معها الشعار المألوف: من ليس معنا فهو ضدنا. لم تمض سوى أسابيع على زيارة الفريق حميدتى الى موسكو- تلك الزيارة سيئة الحظ-وقبل أن يتمكن من القفز من السفينة الروسية، إلا وقد دُعي-بحسب ما ترجح لدينا- إلى لقاء خاص وعاجل مع ممثلي “مجموعة الرباعية” المعادية لروسيا، والتي لم تكن غائبة عن المشهد، أو غافلة عن محاولات الاختراق الروسي لأفريقيا عبر السودان. في ذلك اللقاء واجه ممثلو “مجموعة الرباعية” الفريق حميدتى بثلاثة ملفات خطيرة: ملف التطهير العرقي والإبادة الجماعية في دافور، وملف التقارب الروسي، وملف “فض اعتصام القيادة” (بصوره وعدته وعتاده). وضعت هذه الملفات أمام الفريق حميدتى، ثم قُرئت عليه المواد المتعلقة بجرائم الحرب وعمليات الإبادة الجماعية من قانون المحكمة الجنائية الدولية، وأوضح له بصورة لا غموض فيها أن مصيره بات رهيناً بالقوى التي تمسك بتلك الملفات، وهو مصير لن يختلف عن مصير على محمد على كوشيب الذي وجهت له 31 تهمة ارتكاب جرائم مماثلة، أو مصير لوبانقا زعيم المليشيا الكنغولية. وبين ممثلو الرباعية للفريق حميدتى بلغة واضحة لا غموض فيها أن أمامه واحداً من خيارين: أن يصبح هو نفسه متهماً بجرائم حرب وابادة جماعية (بعد اعلان الدعم السريع منظمة إرهابية)، فينهى بذلك مسيرته السياسية، أو أن يبدأ صفحة سياسية جديدة تنتهي به إلى رئاسة جمهورية السودان. وفى حالة ذهابه نحو الخيار الأول، فان النقاش في ذلك اللقاء يكون قد انتهى، وعليه الاستعداد للمحاكمة وحسب. أما في حالة قبوله بالخيار الثاني (وهو الخيار المفضل لدى المجموعة) فعليه أن يعود أدراجه لينخرط حالاً في تنفيذ ثلاثة أمور محددة:
الأول: أن يعلن اعتذاره عن انقلاب 25 أكتوبر بعبارات واضحة لا لبس فيها (مع ما يتبع ذلك من فرز للصفوف وقطع للعلاقات-سواء مع البرهان أو الإسلاميين أو الزعامات الأهلية المتجاوبة معهم)؛ الثاني: أن يغلق كل نافذة كان يطل منها على روسيا (أو تركيا أو إيران أو حلفائهما في المنطقة)؛ الثالث: أن يطوى خلافاته مع مجموعة “قحت” وأن ينضم فوراً بكل ثقله (العسكري والاقتصادي) إلى ما تقترحه مجموعة الرباعية من ترتيبات ومشاريع وتقدمها (من خلال قوى الحرية والتغيير).
وفى مقابل هذه الخطوات الثلاث فان المجموعة ستلتزم له بالآتي، أولاً: أن يُطوى تماماً “ملف اعتصام القيادة” وما يتصل به من ذكر للمحكمة الجنائية الدولية، أو لجنة تحقيقات المحامي نبيل أديب، أو لجنة أسر الشهداء، وما شابه ذلك من مطالبات بحل الجنجويد والقصاص للقتلى؛ الثاني: أن يُغض الطرف عن شركاته واستثماراته، وأن يزاد له في الدعم العسكري، وأن توفر له التغطية السياسية والإعلامية (على المستوى الاقليمي والدولي) حتى يكتمل الصفقة.
لم يكن أمام الفريق حميدتى خيار غير تناول الجزرة؛ أي قبول “الصفقة” والانصياع التام لقرارات الرباعية (والعودة إلى منصة التأسيس). ومنذ ذلك الحين تيقن ممثلو الدول الكبرى وحلفاؤها الاقليميون والمحليون أن مجهوداتهم السابقة في صناعة الشخصية “الظرفية” المثالية لم تذهب سدى. فخرجوا من السر إلى العلن، وصارت جماعتهم تُعرف في الصحافة باسم “الآلية الرباعية الدولية”، وتتكون من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والامارات. وصارت هذه المجموعة تواصل امساكها بالشأن السوداني كاملاً من خلال سفرائها في الخرطوم أو ممثليها أو أجهزة مخابراتها. وصارت تعقد اجتماعات متواصلة مع بعض الناشطين السياسيين ممن تسميهم “الفاعلين السياسيين”، وكان العنوان الدائم لتحركاتها هو التوسط لحل الأزمة السياسية في السودان عن طريق الحوار لاستكمال “العملية السياسية”، والوصول إلى حل ينهى الوضع الإنقلابي القائم منذ 25 أكتوبر. هذا، ومن المفهوم بداهة أن فك الارتباط بالانقلاب، وإعادة التقارب مع قوى الحرية والتغيير يأتيان على رأس المطالب المتوقعة من قبل كل أعضاء المجموعة ولا يحتاجان إلى تفسير، وذلك لما عرف عنها من استثمار كبير في حكومة حمدوك المخلوعة (بجناحيها العسكري والسياسي)، ولما عرف عنها من فوبيا الإسلام السياسي ومن كراهية لإيران. أما المطلب الثالث المتعلق بقطع الصلة مع روسيا فهو المحرك الرئيس الذي قد يحتاج إلى مزيد من التفسير. فلماذا تتخوف مجموعة الأربعة من تقارب روسي-سوداني يتزعمه حميدتى؟
أن أياً من هذه الدول الأربع كانت ترى أن التسلل الروسي إلى السودان (خصوصاً على البحر الأحمر) سيكون خصماً على مصالحها. إذ أن أي واحدة من هذه الدول تحرص أن يكون لها نفوذ لا يضارع على سواحل البحر الأحمر، أو على أرض السودان الزراعية الوافرة، أو معادنه النفيسة، ولا تحتمل وجود منافس قوى ومعاد مثل روسيا أو تركيا أو إيران. ويدرك المراقبون أن الطموح الأساس للإمارات-على وجه الخصوص- هو أن تصبح مركزاً اقتصادياً يربط شرق أفريقيا وجنوب آسيا من خلال ما بات يعرف باستراتيجية “سلسلة الموانئ”، أي التحكم في مواني جنوب شبه الجزيرة العربية والقرن الأفريقي. وبما أنها لا تملك قوات عسكرية مقاتلة فهي تبحث باستمرار عن مقاتلين محليين (مليشيات) لتقوم بتدريبهم وتسليحهم كما فعلت في جنوب اليمن أو في ليبيا، وكما ظلت تفعل مع قوات الدعم السريع في السودان. فاذا تحول حميدتى بمليشيات الدعم السريع نحو روسيا فان كل ما استثمرته الامارات في تلك القوى يكون قد ذهب ادراج الرياح. ومن خلال التحكم في الفريق حميدتى وقواته المقاتلة يمكن التحكم في السودان وفى جواره الأفريقي. وكما تحتاج الامارات إلى جنود لتحقيق تمددها الأفريقي، فان المملكة السعودية تحتاج إلى قوات مقاتلة يمثلون حاجزا بينها وبين الحوثيين في جنوب المملكة. أما حكومة الولايات المتحدة فلا تطيق- في إطار حربها مع روسيا ودعمها لأوكرانيا- أن ترى الفريق حميدتى وهو يضخ أطناناً من الذهب في الخزينة الروسية. ولا يوجد بالطبع ما يكبح جماح الفريق حميدتى وضبط تحركاته غير اخافته بملف فض الاعتصام؛ ولا يوجد ما يحركه أفضل من اغرائه بالسلطة. ومن خلال التخويف والاغراء استطاعت مجموعة الأربعة أن تبرم واحدة من أخطر الصفقات وأكثرها دموية في تاريخ السودان الحديث- كما سيتضح لاحقاً. نواصل