📍 السفير عبد الله الأزرق يكتب: 📍رَحَى البعثات الدولية

📍 السفير عبد الله الأزرق يكتب:

📍رَحَى البعثات الدولية

من الوقائع التي لن أنساها – وأنا وكيل الخارجية وقتها – أن الشرطة وافتني برسالة خاطبتها بها البعثة المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة للسلام في دارفور (يوناميد UNAMID)، تطلب فيها أن تحرس قوات شرطتنا مقرات البعثة في دارفور!!!
كان الطلب من بعثة نيط بها تحقيق السلام في دارفور من المضحكات المبكيات. قلت فليمدد أبو حنيفة رجليه !!! وتذكرت مقالة المصريين:
“جيتك يا عبد المعين تعينّي لقيتك (لأيتك) يا عبد المعين تِنْعَان”

ثم إن إفادات المخابرات العسكرية وإفادات جهاز المخابرات كانت تقول لي: إن قوات يوناميد سلمت أسلحتها أكثر من مرة ، لقوة من إحدى فصائل متمردي دارفور.. وتقول: إن دليلها أن القوة التي هاجمت قوات يوناميد وهي خارج معسكرها كانت صغيرة ولا تتناسب مع قوات يوناميد!!!

وحقيقة لم يُثر ذلك عجبي، لعلمي أن قوات راتكو ملاديتش قائد قوات الصرب قتلوا أكثر من 8000 من مسلمي البوشناق (البوسنيين) في سربرنتسا عام 1995، على مرأى ومسمع من الكتيبة الهولندية التابعة لقوات سلام الأمم المتحدة.

وانسحبت قوات الأمم المتحدة والقوات البلجيكية من رواندا لدى اندلاع القتال الذي راح ضحيته 800 ألف من التوتسي.

وكانت تلك القوات تدعم (راديو رواندا) الذي كان المحرض الأكبر على قتل التوتسي، ودعمت شخصيات مؤثرة في رواندا تتبنى خط المواجهة مع التوتسي.

وهناك روايات قوية تحدثت عن تواطؤ الفرنسيين في تأجيج الصراع.. وهذا رأي يتبناه الرئيس بول كيقامي نفسه.

وفي تاريخها لم تسهم القوات الأممية في فض نزاع، إن لم تُسهم في تأجيجه. وظلت تستمتع بالرواتب العالية والامتيازات، والطعام الشهي تأتيها به المبرِدات شُرّعاً تحمل السالمون من اسكندنيڤيا، ولحوم العجول البرازيلية، والزبادي المُحلى بالفاكهة من أوروبا. ومكثت تلك القوات في بعض البلاد منذ 1948 وعام 1949(فلسطين وكشمير ).

بعامة، أخفقت تلك القوات في “فرض السلام” مثلما فشلت في “حفظ السلام”.

ويُحمد لحكومة البشير أنها نجحت في إخراج قرابة نصف قوات اليوناميد عبر استراتيجية الخروج Exit Strategy ، وكان ما تبقى سيخرج في 2019.

لكن المفاجأة المحزنة أن رئيس وزراء (الثورة) أبقى يوناميد دون حجة أو كتاب منير ، وزاد الطين بِلّةً بأن طلب يونيتامس بموجب خطابه السري (وقتها) المؤرخ 27 يناير 2020 ، وبرضى من الفريق البرهان . ولم يكن ثمة موجب وطني صريح ومقنع لطلبه يونيتامس، بل إن مبادرته الغريبة مثيرة للشبهات.

ومما يؤكّد أن عملية اختيار المبعوثين الدوليين لا تجري بعفوية ومهنية، وأن الدول الكبري تأتيها بنوايا طاهرة وأيدٍ نظيفة with clean hands، ذلك التنافس المحموم بينها في الاختيار.

وقد احتدم التنافس في اختيار مسؤول يونيتامس بين بريطانيا التي رشحت نيكولاي هايسوم (سبق أن طردته الصومال) وفرنسا التي رشحت ‏ Jean-Christophe Belliard الذي يسميه السودانيون بيلارد (متزوج من ابنتنا من القضارف سهاد عمر النور خميس) وهو من اليسار الفرنسي .. ورشحت ألمانيا ڤولكر بيرتس، الذي عُيّن ليصبح للسودان عدوّاً وحَزَنا، كما سنبيّن.

الذي يؤسف له أن ڤولكر لم يكن نزيهاً في أدائه ولا محايداً، فقد ملأ مكتبه بمناصري قحت من اليساريين، ومالأهم لدرجة تمويل مظاهراتهم وضروب نشاطهم السياسي، وأظهر تحيزاً أفشل ولايته Mandate.

وما كان تَحَيّز ڤولكر بِدَعاً ، فقد تحيز بعثة الأمم المتحدة في رواندا ضد التوتسي ، وموّلت الإعلام المعادي لهم ( راديو رواندا ) ، وغضّت قوات الأمم المتحدة في البوسنة الطرف عن مجزرة سربرنتسا ، وكذلك فعلت يوناميد في دعمها للفصائل المتمردة في دارفور .

كُلّف ڤولكر بمهام عديدة يعرفها السودانيون، لكنه فشل ، فقد عادت الحرب لدارفور بعد أن شهد السيد جان بيير لاكروا، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لعمليات السلام أمام مجلس الأمن أن الحرب في دارفور غدت من الماضي في يونيو 2018.
ولم يوفق في العمل الإنساني، وأخفق في المساعدة للانتقال السياسي وصياغة دستور والتحضير للانتخابات، وفشل في تعبئة المساعدات الإنمائية وتحسين الأوضاع الاقتصادية.

والمؤسف أنه لم يكن أميناً حتى في إفاداته لمجلس الأمن، واعترض الفريق البرهان على مجمل أدائه في خطاب رسمي. وكانت كارثته أنه تحيز لصالح متمردي الدعم السريع، لدرجة أنه أخفى انتهاكاتهم وفظائعهم خلال الحرب أو ( دغمسها ) . وهكذا استقر به ترحاله غير الحميد إلى الإقالة أو الاستقالة.

كان تركيز ڤولكر منصباً على تحقيق أجندة سياسية : ممثلة في تفكيك الجيش، وتمكين العناصر المكونة لأحزاب قحت، وإقصاء سواهم، وانتهى به المطاف أن زاوج بين أهداف قحت وذراعها العسكري (مليشيا الدعم السريع).

وأمام الفرحة التي أبديناها إزاء ما حاق بڤولكر أجدني ملزماً للقول:
إن مشكلتنا الأصيلة ليست ڤولكر وحده.
وما انتهى إليه لا يعني أن من كان وراء تعيينه سيبعثون لنا الأم تريزا Mother Teresa قديسة الخواجات. ذلك أن للبعثات وللمبعوثين مهام غير معلنة أهم مما يُصرح به أو يكتب في تكليف الولاية. ويشهد على ذلك تاريخ في أزمات رواندا ودارفور والبوسنة وغيرها.

أصل المعضلة هو البعثة نفسها التي استقدمها السيد حمدوك دون مبرر وطني أو حاجة ملجئة وضرورة مُلِحّة.

وبما أن قرار إنشائها ( بالرقم 2425 بتاريخ 3 يونيو 2020) قد نصّ على ملكيتنا لها، وأنها فشلت في تحقيق المرامي التي نص عليها قرار إنشائها، فمن حق المالك (السودان) أن يطلب إنهاءها.

قال الشوكاني في (نيل الأوطار) إنه كان للمغيرة بن شعبة عبداً صَنِعَاً يُحسِنُ النجارة والحدادة . فضرب عليه المغيرة كل شهر مائة، فشكى إلى عمر شدة الخراج (الضريبة التي يدفعها للمغيرة) فقال له عمر: ما خراجك بكثير في جنب ما تعمل.. فانصرف ساخطاً.. فلبث عمر ليالي فمر به العبد فقال له: ألم أُحَدّث أنك تقول: لو أشاء لصنعت رحاً ( طاحونة ) تطحن بالريح؟ فالتفت إليه عابساً فقال له: لأصنعن لك رحاً يتحدث الناس بها.. فأقبل عمر على من معه فقال: توعدني العبد. وصدقت نبوءة سيدنا عمر، إذ ما لبث أن كمن له العبد فقتله.

وإن لم نطردها ، فستدور بنا دوائر كتلك التي عشناها منذ مجيئ بعثة فولكر في 2020 وانتهت بنا إلى كارثة حرب لم تخطر لنا في أسوأ كوابيسنا.. أو تكون أشد سوءاً من رحى أبي لؤلوة، غلام المغيرة.
البعثات الدولية تمثل أساليب الاستعمار الجديد ، لتعركنا عَرْك الرَّحَى بثِفالها ، فقد أضربوا عن التدخل العسكري المباشر . البعثات متحيّزة وظالمة ، وبقاؤها ظلم لشعبنا . ولنتذكر :
وما مِن يدٍ إِلا يدُ اللهِ فوقها … ولا ظالمٍ إلا سيُبلى بأظلمِ .

ها قد بلّغت، اللهم فاشهد.

📍 السفير عبدالله الأزرق
وكيل وزارة الخارجية الأسبق
15 سبتمبر 2023

Exit mobile version