همس الحروف … تحسبهم شخوص و هم في الحقيقة مجرد فراغ ✍️ الباقر عبد القيوم علي

همس الحروف

تحسبهم شخوص و هم في الحقيقة مجرد فراغ

✍️ الباقر عبد القيوم علي

رحم الله الشيخ ياقوت الحموي الذي شخص لنا الحالة السودانية الميؤوس منها قبل ثمانمائة عام أو يزيد و كان متفرساً في شخصيات الذين ينغصون حياة الناس و يكدرون المزاج العام بدون مبررات منطقية و بدم بارد (بقصد) و في أحايين كثيرة (بدون قصد) ، و هو القائل :

وإخوانٍ حسبتهمُ دروعاً
فكانوها و لكن للأعادي

و خلتهمُ سهاماً صائباتٍ
فكانوها ولكن في فؤادي

و قالوا : قد صفت منا قلوب
لقد صدقوا ولكن من ودادي

بكل أسف يتصدر المشهد السوداني نوعية غريبة الأطوار من قيادات العمل العام نجد بعضهم متهور للغاية بصورة يصعب كبح جماحه ، و مستبد لا يضع لنفسه خطوط حمراء و لا يحسب لأدائه العام أي حساب ، غير مبالين بنتائج أفعالهم ولا يدرسون قراراتهم أبداً ، و قد أصاب بعضهم عطش جارف لممارسة السلطة و فرض الأوامر و ممارسة التعسف إشباعاً لنفوسهم المريضة .

يأدون هذه الأدوار بذكاء حاد ، و أحياناً يصبح الذكاء عليهم لعنة ، و أخرى يكون تذاكياً متعمدا ، حيث يصعب التواصل بينهم و بين الآخرين ، و خصوصاً إذا تجاوزت أعمارهم المتذاكين سقف عمري معين و تجاوزوا حدود ال 60 من العمر حينها تبرز عندهم بعض العادات الغريبة و الصفات الشاذة التي تصاحبها افعال فيها درجة من الغرابة و تأتي في أشكال مختلفه على غرار الحسم في بعض الآمور ، و الاجتهاد الخجول أحياناً ، و قد يصاحب عند البعض سلوك يتعلق بالرغبة الجامحة في المخاطرة و يتطور هذا السلوك إلى إستخدام لغة التهديد و الوعيد في بعض الأمور التي لا ترتقى لمستوى أن تكون موضوع من الأصل ، و مثل هذا السلوك يصنف شاذاً و إنفعالياً لأنه يكون متجاوزاً لسقف الجدية التي يتطلبها الموقف ، و يحدث كل هذا فضلا عن سلوك التسامح الذي يجب أن يتوفر مع الآخرين ، و على الرغم من أن الذكاء صفة إيجابية و نعمة إلا أنه قد يصبح نغمة عندما يكتوي بنيرانه الواقعين تحت تأثيره المباشر ، فنجد ضحياهم كثر و يواجهون صعوبات كبيرة خصوصاً إذا كان المتذاكي عليهم في موضع صناعة (القرار) أو (يمتلك سلطة) ، و لو كان حراساً لمدخل أي مؤسسة يتردد عليها الناس كثيراً ، فإن المصيبة حينها ستكون عليهم أكبر .

يجب على سعادة وزير التعليم العالي و البحث العلمي بروف دهب أن يفهم حقيقة واحدة فقط و هي أن هذه الحرب كانت ضد وجودية السودان ، و أنها لا تتمثل في العمليات الحربية (فقط) التي تدور رحاها في الخرطوم و بعض ولايات دارفور ، بل هي حرب شاملة إستهدفت إستإصال كل شيء حتى التأريخ و الطبيعة و الجغرافيا لم تسلم منها ، و هي كما أسلفت ضد وجودية السودان (يكون أو لا يكون) ، حيث أراد صانع هذه الحرب إفراغ السودان من أي محتوى يمكن ان يستفاد منه ، و أن القوة الغاشمة و الغشيمة التي تدير هذه الحرب قامت بمحق و سحق أي رصيد يدخره الشعب السوداني من كل شيء ، و كان من أولويات مشروع هذه الحرب هو تهجير الشعب قسرياً إلى الشتات في أرض الله الواسعة ، و ما زال هذا الإفراغ و إفقار الشعب مستمراً في غير ميادين القتال ، ففي بعض الأحيان يتم هذا العمل الجبان بصورة ناعمة و على أيادي نحسبها وطنية خبرت كيف تستخدم سلطاتها في تنفيذ هذا المخطط الأسود ، و يتم ذلك عبر مجموعة خطيرة من المختبئين في دهاليز السلطة المظلمة و ما زالوا على رأس أعمالهم يتصرفون كما يشاؤون و يديرون هذه العمليات بصمت شديدة مستخدمين فيها ذكائهم الحاد و نفوذهم القوي لأجل صناعة (الخراب) ، فبعضهم ينفذ المخطط بوعي تام بمالاته و البعض الآخر بدون وعي ، ففي كل الحالتين فإن النتيجة تصب في ماعون أجندات الحرب ، و يعاونهم على ذلك بعض مرضى النفوس ، و كل من فضل أن يكون مطية ضد أهله وشعبه ، و كذلك أيضاً هنالك بعض المغيبين الذين لا يعون ما يفعلون ، و أقرب دليل على ذلك القرار الذي أصدرته وزارة التعليم العالي و البحث العلمي بشأن تعطيل الدراسة في جميع مؤسسات التعليم العالي إلى أجل غير مسمى و أكاد أجزم باليقين النافي للشك بأن هذا القرار تم تجيره فقط بإسم السيد الوزير ، لأنه قرار يصعب أن يخرج من شخص متشبع بالوطنية و يعمل لأجل المصلحة العامة و لا أظن أن السيد دهب يمكن أن يكون ضد المصالح العليا للوطن ، و تتمثل خطورة هذا القرار في إنه أسهم إسهاماً مباشراً في إفراغ الجامعات الوطنية و الحكومية و الخاصة و الأهلية من طلابها و تهجيرهم بالإكراه تهجيراً قسرياً إلى الدول المجاورة لأجل لحاق ما يمكن لحاقه من أعمارهم التي ضاعت بدون مبرر ، و على الرغم من أن هذا القرار يضع وزير التعليم العالي في خانة العداء تجاه مستقبل إبنائنا الطلاب إلا إنه لم يراودني في يوم ما أدنى شك في وطنية هذا الرجل ، و كما إنني لم و لن أطعن في أدائه العام لصالح الدولة السودانية و لا يجوز لي إتهامه بالخيانة ، فهو رجل مهني ، و لكن نعتبر له ما مسنا من ضر (سقطة معلم) ، و لكن قد أجد له المبرر الكافي ، و ذلك لبعده المكاني عن المشهد السوداني ، فهو مقيم في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية مما جعل إحساسه ضعيفاً تجاه ما يحدث في الساحة ، الشيء الذي جعل فعله لا يتناغم مع المزاج العام للشعب في خضم تداعيات هذه الحرب ، التي كانت للشعب أفضل مدرسة و قد كشفت له العدو من الصليح ، و تعلم منها الشعب الكثير و المفيد الذي لا يحصى و لا يعد .

على العموم أتى قرار السيد الوزير خاوياً من الموضوعية و القانونية و العقلانية ، و الادهى و الأمر (غير مسبب) ، و كما لا يدانيه المنطق ، حيث مارس السيد الوزير في هذا القرار درجة من الذكاء أو التذاكي من أجل ان يسجل به لنفسه حضور في دفتر الأحوال ، و ينفي به غيابه و يدارى به قضية عدم تواجده داخل الوطن في مثل هكذا ظروف ، أي من أجل ان يقول للناس (أنا موجود) و لا أكثر من ذلك ، هذا القرار من المؤكد مؤشر و إنزار مخيف لتطورات تفيد بتصدع باتا وشيكاً في الجهاز التنفيذي في كامل الدولة ، و هذا الأمر سيهد كامل المعبد على العابد ، لأن جميع منتسبيه يغردون خارج السرب و كأن بهم جُنة ، و لكن هذا القرار الذي أحدث فرقة ضخمة لم يزعجني أبداً ، و يجب أن يطمئن الجميع لأن مثل هذه القرارات لن تصمد طويلاً ، و لذلك لا أرى ان تكون هنالك ضرورة لمطالبة سعادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان للتدخل و إيجاد معالجة حاسمة لمثل هذه الأفعال التي تعتبر في مقام الترهات ، لأن هذا القرار أضعف من أن يصمد أمام القضاء الإداري لمدة ربع ساعة فقط ، و لقد جرب سعادة الوزير تلك الحرب القانونية التي أشعلها مع نفسه ضد جامعة أفريقيا العالمية سابقاً في شأن داخلى يخصها و ليس للوزارة سلطة في ذلك ، حيث ذهب ذلك القراره الأبتر في مهب الريح ، و تم كسر حلقته في ظرف ساعة واحدة فقط حينما تمت مواجهه بالقانون ، و من هذا المنطلق أهيب بجميع مدراء و عمداء الجامعات و الكليات أن يطمئنوا تماماً ، و ألا يضغطوا على أعصابهم ، لأن مسيرة التعليم أقوى من أن يتحكم فيها شخص أو قرار ميت قبل أن يولد ، و لهذا يجب ألا يكون لهم شاغل ، و أن يتركوا الامر لأصحاب الشأن من الشباب ليأخذوا حقوقهم الدستورية عبر المحاكم الإدارية التي ستنصفهم في الحال ، أو من خلال الشرعية الثورية إن أرادوا ذلك ، و يجب أن يعلم كل الذين يغردون خارج السرب و يتفسحون خارج الصندوق أن مسيرة التعليم العالي ستستمر رغم أنف من أبى ، و الله من وراء القصد .

Exit mobile version