“أقرب موارد العدل القياس على النفس”.. جمال الدين الأفغاني ..!
مواطن باكستاني مسلم اشتهر بطول شاربه كان يعبر شارع بيتهم في أمان الله – قبل سنوات – عندما لمحه مسلحون من جماعة “عسكر إسلامي” الدينية المتشدِّدة، فقاموا باعتقاله بتهمة عدم الامتثال للسنة النبوية في مسألة حف الشوارب وإطلاق اللحى، وأجبروه على المثول أمام رجل دين يثقون في “تشدُّده”، فأفتى فضيلة الشيخ بأن شارب الرجل “لا يتلائم مع الشريعة الإسلامية”. وهكذا قام الجماعة بتنفيذ الحكم في ذلك المواطن فأقاموا على شاربه الحد .
لا بد أنك الآن تبتسم، أعرفها تلك الابتسامة التي نُطلقها باطمئنان في وجه غرائب الآخرين ونحن نواجه اختلافنا عنهم بقدرٍ وافرٍ من الظن الحسن، ولكن هل تعتقد فعلاً أن شاربك ــ أقصد بلادك ــ بمأمن من هجمات أي جماعات عسكر إسلامي مشابهة لمجرَّد أنك لا تعيش في شمال غرب باكستان؟ لا أقصد أن أفسد عليك مزاجك بأفكار متشائمة لكنني أدعوك إلى قراءة ثانية من خلال إحدى صور الخطاب الإعلامي لدعاة “التدين الشكلاني” الذين طال صياحهم واستطال نفوذهم المُركَّب بين إمامة المنابر وزعامة المنصات السياسة “مطالبة مواطن سوداني – خلال ندوة سياسية أقامها تحالف نداء السودان – بفتوى شرعية لإهدار دم رئيس بعثة يونيتامس فولكر بيرتس مع استعداده للتنفيذ بكل سرور..!
يبدو لي أن الخطاب الديني والسياسي في السودان يتنازعه اليوم تياران، تيار “المحافظين”، وهؤلاء لا ولم تزحزحهم التحوُّلات والمآلات حرفاً واحداً عن قناعاتهم، ولا يأبهون بتجديد خطابهم، فوسيلة إقناعهم عدة أيديوولوجية قديمة لا تريد سلاماً بقدر ما تنشط في إنتاج الأزمات وتصديرها إلى الشارع العام، مُغلَّفة بمحاذير دينية ومزاعم سياسية لا تمثل إلا تياراً متشدِّداً واحداً يشبه في منهاجه سلاح “عسكر إسلامي” في مواجهة “شوارب” عامة المسلمين ..!
وتيار “المُجدِّدين” الذي يتعامل تعاملاً نقدياً مع متغيِّرات الأوضاع السياسية والإقليمية ويتصدى لدعوات الرجعيِّين “دعاة الأدلجة في الدين والسياسة” بمبضع التحليل والتفكيك ومن ثم الدحض والتعرية ــ ليس حباً في المشاجرات الإعلامية، بل من أجل إعادة البناء والتركيب ــ وهؤلاء أنفسهم ليسوا على قلب رجل واحد، ففيهم من ينتقد أشباه “عسكر إسلامي” وفيهم من يرفض طبيعة “السلاح”، وفيهم من ينادي بالإبقاء على “الشوارب” ..!
التاريخ المعاصر مليء بالكوارث السياسية التي صودرت فيها الحريات وانتهكت العدالة باسم الدين، وضجيج الأدلجة في الخطاب الإعلامي للرجعيين الجدد ما زال يعلو ويعلو، حتى يجد المرء نفسه محشوراً في خانة الإنشاء الأدبي و”الكلام الكبار” لتوصيف الكوارث وتشخيص الأدواء، من “هواجس الهوية” إلى “منطق الصدام”، ومن “عقيدة الاصطفاء” إلى “تهويمات النخبوية العربية والسيادة الإسلاموية” ..!
الشخصيات السياسية الدينية التي تعيش وفقاً لقناعات وأفكار تحجب عنها رؤية المنطق والحجة في خطاب الآخرين هي أخطر آفات أدلجة الدين في أي مجتمع، حيث يدلل غياب الخط العقلاني وشيوع الوعيد في أطروحاتها على الخراب العاجل الذي تدعو إليه .