حيدر المكاشفي يكتب : أبريل وأبريل وبينهما ثورة مستمرة
أبريل 1985 كان هو شهر الاطاحة بنظام نميري، وأبريل 2019 كان هو شهر اطاحة نظام البشير، والعجيب أنهما لم يتزامنا في الشهر فقط بل في اليوم أيضا، السادس من أبريل، وكانت ذكرى انتفاضة أبريل 85 تمر علينا على استحياء خلال العهد البائد، الذي تعمد طمر ذكراها حتى لا تذكره بانتفاضة الشعب الكاسحة ضد الظلم والقهر والانقلابيين، ولكنها بعد أبريل 2019 تجددت اذ انها تجلت في ثورة ديسمبر المجيدة التي ما تزال جذوتها مستعرة، وبمناسبة ذكرى انتفاضة أبريل 85، تعود بي الذاكرة الى تلك الأيام المجيدة العجيبة، أذكر وقفة الجيش والشرطة والتحامهما مع الجماهير، وموقف النقابات فرادى وجماعات، وركزة الطلاب والطالبات، الذين كانوا يشكلون رموزا وواجهات للانتفاضة العظيمة، كما أذكر بشكل خاص الشريحة المهملة التي اصطلح على تسميتها ب(الشماشة)، فقد كان لهؤلاء (الشماشة) دورا واضحا وبارزا في التظاهرات التي سبقت إعلان الجيش انحيازه للشعب، بل كان لهم قصب السبق في كسر حاجز الخوف مما مهد الطريق لاندياح التظاهرات وتواليها، بل أتذكر بكل الإعجاب التحول العجيب الذي طرأ على سلوك هذه الشريحة المغمورة والمطمورة تحت أنقاض المدن، تعيش داخل قيعانها ومجاريها وتتغذى على فضلاتها، منبوذة ومطرودة من رحمة الوطن، ولا يذكر اسمها إلا مقرونا بكل ما هو شائن وقبيح، فكان عجيبا وغريبا أن تتحول شريحة موسومة بكل هذا السوء ومعطونة في وحل القاذورات لتصبح فصيلا متقدما من فصائل الانتفاضة..
والسادس من أبريل 2019 ، ذلك اليوم الأغر المشهود الذي اقتحمت فيه الحشود المليونية كل المتاريس العسكرية وجرفتها أمامها غير عابئة ولا هيابة من كتائب ظل على عثمان ولا مكترثة لجندرمة أحمد هارون، الى أن اعتصمت بسوح القيادة العامة للجيش، وقد عرفت تلك الواقعة التاريخية ب(اعتصام القيادة العامة)، وكانت (صبة) أدهشت العالم كما أدهشته سلمية الحراك الثوري، ثم من بعد أن استوى عود الاعتصام الذي جمع فأوعى وصارت ساحته سودانا مصغرا، أصبح محيط القيادة وأضحى وأمسى موارا وفوارا بالنشاط الثقافي والفني والاجتماعي والتكافلي، ومختلف ضروب الإبداع.
من حلقات أدبية وقراءات شعرية ووصلات موسيقية ومعارض للكتاب والقراءة ومعارض للفنون التشكيلية والرسم والتلوين والتصوير الفوتوغرافي ومخاطبات توعوية وحلقات نقاشات ومثاقفات وتبادل للآراء والأفكار، وتجمعات لتلاوة القرآن الكريم وحلقات ذكر صوفي وليالي طرب وغناء وإيقاعات شعبية وتراث شعبي من أركان البلاد الأربعة من الشرق والغرب والشمال والجنوب، وكانت هناك أيضا مساحات للترويح والمؤانسة والضحك والسخرية واسكتشات درامية، وغير ذلك من فعاليات وأنشطة متعددة ومفيدة، إنها كانت بالفعل ثورة شاملة فكرية واجتماعية وثقافية، وهذا هو المد الثوري الفعلي الذي كان غائبا وتفتقده البلاد، واستمر الاعتصام بكل زخمه وحيويته حارسا للثورة ومدافعا عن شعاراتها وأهدافها، الى أن أسقط أولا البشير بعد خمسة أيام، ثم كشف بعدها الاعيب لجنة النظام الأمنية فأسقط ثانيا ابن عوف وجماعته،
فقد كان الثوار في كامل اليقظة ينومون بعين مفتوحة، وهم دائما على أهبة الاستعداد لإسقاط كل من يحاول العبث بثورتهم ومكتسباتها ..وبهذه المناسبة لابد ان تستذكر قوى الثورة وتستلهم روح تلك الملاحم الخالدة فى 6 ابريل واعتصام القيادة وما ادراك ما اعتصام القيادة، الذي تجلت فيه اعلى درجات الايثار والصدق والروح الجماعية، و30 يونيو وما ادراك ما 30 يونيو تلك الملحمة التاريخية التي فرضت ارادتها الشعبية حين حاول العسكريون التلاعب بذيلهم، فلا سبيل للعبور بالفترة الانتقالية الى مرافئ النجاح والأمان الا بتمتين وحدة واصطفاف مكونات الثورة ومؤيديها وداعميها، فذلك هو الهدف الذي لا مناص من العمل على بلوغه عاجلا قبل آجل..