جعفر عباس يكتب: أبو الجعافرة في السفارة
خرجت من السجن وقضيت زهاء الأربعة شهور بلا شغل او مشغلة سوى القراءة، وكان المعتقل السياسي في عهد نميري يتقاضى راتبه الشهري ناقصا فقط علاوة غلاء المعيشة، ومن ثم فقد كنت ثريا لأن راتبي لأشهر السجن الثمانية من وزارة التربية كان في انتظاري كاملا، وحاول رؤسائي في الوزارة الاتصال بي كي أعود الى العمل بعد كتابة تعهد بعدم ممارسة نشاط معارض للحكومة، ولكنني واصلت الزوغان منهم، ثم جاءني رسول من طرف أستاذ الأجيال دهب عبد الجابر وكان وقتها مديرا للتعليم العام بأن أقابله على الفور، وما كان واردا ان يرفض معلم او يعصي طلبا لعبد الجابر، فذهبت الى الوزارة واكتشفت ان الاستاذين عبد الفتاح عيسي وحمزة مدثر توليا التوقيع على التعهد ودخلت معهما في مساومة: إما تعينوني في مدرسة التجارة الثانوية الملاصقة للوزارة او افتح عليكما بلاغ تزوير، وتدخلا السجن “مكاني”، وهكذا صرت مدرسا في التجارة الثانوية، وكان مدير المدرسة وقتها أبوبكر سكوري، الذي استدعاني يوما الى مكتبه وقال: كلما أقول لطالب شعره طويل انه لازم يقصه، يقول لي “لما أستاذ جعفر يحلق ويقص أنا كمان ح أقص”، فقلت له انني لست على استعداد للتضحية بشعري الآفرو إلا عند حلاق في فندق القراند هوتيل الذي يتقاضى جنيها كاملا عن القصة الواحدة، وهكذا تعهد سكوري بمنحي جنيها كل شهر لأقص شعري، وكنت أذهب الى الحلاق أبو الهول في بحري واعطيه عشرين قرشا فقط نظير كل جلسة حلاقة
ثم قرأت إعلانا بأن السفارة البريطانية ترغب في تعيين مترجم-ضابط إعلام، فقدمت طلبي وجلست للامتحان ونجحت وحددوا لي موعدا للانترفيو، وحدثت الحكاية التي كتبت عنها من قبل: قبل الانترفيو بيوم جاءني صديق وقال لي ان السفارة اختارت شخصا توسط له الصادق المهدي شخصيا، وهكذا وفي اليوم التالي ذهبت الى بيت أصدقاء عزاب في حي المزاد في بحري، وجدتهم جالسين في غرفة مغلقة النوافذ يتوسطها بخور نفاذ وهو يتسامرون وبعضهم يمارس التدخين، وسألوني عن الانترفيو فقلت لهم ما سمعته من امر منحها لشخص آخر، فقالوا بالإجماع: لازم تمشي، وربما لا يكون ما بلغك من امر ضياع الفرصة صحيحا، وبسرعة جاءوا بقميص من هنا وبنطلون وحذاءين من هناك وغادرت الى السفارة صحبة اثنين منهما، وجلست امام مستشار السفارة رونالد قرايمز وآخرين وأجبت على الأسئلة بلغة ضاحكة وربما مستهترة على أساس ان الانترفيو أصلا فيلم هندي، ثم فوجئت في نهاية الجلسة بقرايمز يقول لي: الوظيفة لك والراتب 95 جنيها ونرجو ان تفكر في العرض وتعود الينا بالإجابة في اقرب فرصة، فنظرت الى السقف قليلا (95 يعني لو كل يوم صرفت 3 جنيه؟؟؟؟) وقلت: فكرت في العرض وقبلته على مضض، وانفجرنا جميعا ضاحكين
وخرجت وأبلغت رفيقي رحلتي بفوزي بالوظيفة فصارا يصيحان في شارع القصر: يييهووو، ثم عدنا الى بيت العزاب في بحري على متن تاكسي (على غير العادة)، وهناك غنيت لنفسي: يا ود الأصول يا التلب الحمول انا غنيت بقول في ود السرور، وبعد تلقي التهاني أحسست بصداع عنيف؛ وأتوني بعصير ليمون من النوع الذي لا تقدمه الا لشخص لدغته خمسة عقارب، واتضح ان الملاعين كانوا يجلسون وسط البخور في غرفة مغلقة لأنهم كانوا يتعاطون البنقو، وانسطلت انا بالتدخين السلبي وذهبت الى الانترفيو مسطولا، ولكن ربك ستر